قبل ثلاثة اشهر ونصف شهر، أعلن نتنياهو الحرب على غزة متعلّلًا بشماعة السابع من أكتوبر، وتوعّد بالرد المزلزل على "طوفان الأقصى"، الذي خلط حساباته وأسقط خرافة الجيش الذي لا يهزم. أعلن نتنياهو في هذا التاريخ الحرب على غزة وصرح حينها لوسائل الإَعلام الصهيونية والعالمية بأنها ستكون حربا شاملة، يقتلع فيها حماس، وينزع سلاحها، ويزحزحها عن السلطة، ويعيد ترتيب الأمور في غزة بالطريقة التي تريدها إسرائيل، هكذا خطط نتنياهو لمرحلة ما بعد الحرب وكأنه حقّق الغلبة وربح المعركة وضمن السيطرة على القطاع.
بدأ نتنياهو حربه الشاملة على غزة بقتل المدنيين وترويع الآمنين، وقطع الماء والغذاء والدواء والوقود عن سكانها، ولكن في ميدان المعركة، توالت نكسات نتنياهو وازدادت أعداد قتلاه في كمائن يومية لفصائل المقاومة وآخرها سقوط 24 جنديا من سلاح الهندسة في كمين محكم داخل بناية انهارت على من فيها. وصل الخبر إلى “تل أبيب”، فأقيمت خيم العزاء وتعالت أصوات الباكين على فقدان أبنائهم في “غزة اللعينة” كما يسميها الإسرائيليون، واكتفى نتنياهو برسائل المواساة التي لم تعد تقنع عائلات القتلى والأسرى التي تنتفض يوميا ضد نتنياهو وضد قادة مجلس الحرب وتتّهمهم بممارسة الكذب وبيع الأوهام وتضليل الرأي العامّ.
كل التقارير الحربية من أرض المعركة في غزة، تؤكد بأن نتنياهو قد خسر الرهان، فأوراقه تتساقط الواحدة تلو الأخرى، وأولها ورقة هدم الأنفاق ووقف ما يسميه "نفاق حماس" واتخاذها المدنيين دروعا بشرية لحماية ظهرها وتمديد بقائها في السلطة، هكذا يتظاهر نتنياهو بحرصه على حياة الغزاويين وهو قاتلهم وبحرصه على مصالحهم وهو من يغتالها جهارا نهارا، لا يفرق بين محارب وقائم في المحراب.
لم يستطع جيش الدفاع الصهيوني فك شفرة أنفاق غزة ولا معرفة امتداداتها وتفرعاتها، رغم وسائل الكشف المتطورة التي يمده بها الحليفان الوفيان، الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. تاه الصهاينة في غزة، فكلما عرضوا صورا لنفق تمّ اكتشافه، جاءهم الرد السريع على لسان الناطق العسكري لـ”كتائب القسّام” بأنه نفق مهجور، وكلما غامروا بدخول أحد الأنفاق وقعوا في المصيدة واقتُنصوا كما تُقتنص الجرذان.
لا تزال أنفاق غزة لغزا محيرا لإسرائيل التي حاولت أكثر من مرة إغراقها بالمياه وتسميمها بالغاز من غير جدوى، وجربت كل الحيل ولم تهتد إلى الحل، ولعل السبب في ذلك -كما يؤكد العارفون بشؤون الأنفاق- أن أنفاق غزة أقيمت بطريقة عجيبة فلها تفرعات وامتدادات ومخارج تسهّل على المقاومة حرية الحركة والتنقل من موقع إلى آخر بما يربك العدو ويجهض كل محاولة للالتفاف أو الانقضاض عليها من الأمام أو من الخلف.
سقطت ورقة الأنفاق، وتحوّل النقاش العسكري والسياسي بشأنها في “الكنيست” إلى اشتباك بالأيدي بين المؤيدين والمعارضين لسياسة نتنياهو في إدارة الحرب في غزة، ولا أظن أن نتنياهو سيهتدي إلى حلٍّ للغز الأنفاق، فهذه الأنفاق ستُغرقه وتُسقط كل مخططاته وتُسقطه من سدة الحكم في القريب العاجل، ستبقى الأنفاق وينتهي نفاق نتنياهو.
وسقطت ورقة الأسرى والمختطفين الذين وعد نتنياهو بأن “جيش الدفاع” الإسرائيلي قادرٌ على تحديد مواقعهم وتحريرهم بالقوة وإعادتهم إلى ذويهم من غير اللجوء إلى هدنة ثانية مع حماس لأنه يعتبر التفاوض معها شكلا من أشكال الرضوخ لمطالب “جماعة إرهابية” يضر بمصداقية الدولة العبرية ويمس بسمعتها الدولية.
هناك مساع أمريكية من أعلى مستوى لإقناع نتنياهو بتوقيع هدنة إنسانية طويلة نسبيا هذه المرة مع حماس من أجل تبادل الأسرى وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى المتضررين والنازحين في شمال غزة وجنوبها، ولكن نتنياهو لم يُبدِ موافقته بعد على هذا المسعى الأمريكي لأنه يتشبث بموقفه الرافض لأي هدنة مع حماس والتي تعني بالنسبة له تنازلا يرفضه بشدة، ولكن يبدو أن ضغط الشارع الإسرائيلي بالاعتصامات والمسيرات وضغط المقاومة قبل هذا وذاك، سيرغم نتنياهو على توقيع الهدنة مع حماس، بل ربما سيرضخ للشروط التي تفرضها، فالخط البياني للمعارك في غزة يجعل حماس في وضعية مريحة لإملاء شروطها وتطبيق مبدأ المقايضة الراجحة التي تعني مقايضة أسرى صهاينة بمعتقلين فلسطينيين من المحكوم عليهم بالمؤبد والإعدام ومن ضمنهم شخصيات معتبرة من “الجهاد” و”القسام”.
وسقطت ورقة القضاء على “حماس” التي ربط نتنياهو وقف إطلاق النار بتحقيقها، فـ”حماس”، التي يروم نتنياهو القضاء عليها تزداد على العكس من ذلك قوة وصلابة، وتدير معركة متكافئة وعالية المستوى ضد الجيش الصهيوني. إن القضاء على حماس وهم لا وجود له إلا في مخيلة نتنياهو حتى ولو دُمِّرت غزة عن بكرة أبيها، لأن من طبيعة المقاومة -أي مقاومة- أنها تعتمد على حرب الشوارع والمواقع التي تتغير إستراتيجيتها بتغيُّر معطيات الحرب، وهذا ما يجعل من غير الممكن بل من المستحيل القضاء عليها أو تصفيتها.
هناك اعترافٌ صهيوني داخل مجلس الحرب بأن تدمير قدرات “حماس” القتالية كليا أمرٌ في غاية الصعوبة ويحتاج إلى مدة طويلة وتكلفة بشرية ومالية باهظة، ولا أعتقد أن الحزب اليميني الحاكم في إسرائيل بإمكانه الصمود كل هذه المدة وتحمُّل كل هذه الأعباء، ولذلك، من المرجَّح أن يضطر نتنياهو في الأسابيع القادمة إلى وقف الحرب.
لقد تغير سقف الرهان لدى نتنياهو من القضاء على “حماس” إلى الرضى بما دون ذلك وهو العثور على ما يزعم جنوده بأنه حذاء يحيى السنوار أو بقايا طعامه وشرابه، فمن الطبيعي أن الإنسان إذا عجز عن تحقيق الهدف الأعلى لسبب من الأسباب تعلّق بالهدف الأدنى، حفظا لماء الوجه وسترا للفضيحة.
وسقطت ورقة تهجير الفلسطينيين وإنشاء منطقة عازلة في ظل الهزائم المتتالية للجيش الصهيوني في ميدان المعركة وتراجع أعداد المؤيدين لسياسة نتنياهو في إدارة الحرب في غزة. لقد أسقطت غزة كل الأوراق التي كانت بيد نتنياهو، ولكن أكبر ورقة منتظرة هي سقوطه المدوِّي الذي لن يطول كثيرا.
("الشروق") الجزائرية