صحافة

تغيّرات في حرب إسرائيل على غزّة

فاتن الدوسري

المشاركة
تغيّرات في حرب إسرائيل على غزّة

المتابع عن كثب لحجم وكثافة الضربات الإسرائيلية على قطاع غزة في شهر يناير خاصة آخر أسبوعين منه، مقارنة بالشهور الثلاثة السابقة له؛ سيلاحظ بعضا من التغير المحدود. حيث خفضت إسرائيل ضرباتها الجوية في غزة نوعا ما، كذلك قد أجرت بعض التغيرات المحدودة أيضا على تكتيكاتها القتالية في سياق حربها البرية مع قدر ما محدود أيضا في حجم التحركات والمناورات التي تستهدف عناصر حركة حماس.

ونظن أن هذا التغيير هو مقدمة لتحول أكبر لعمليات إسرائيل في غزة - نحو التخفيف بالطبع - كذلك، على صعيد عمليات ومناوشات إسرائيل مع حزب الله وفى سوريا. مدفوعاً بجملة من الوقائع والضغوط الشديدة الوطأة.

راهن معظم الخبراء السياسيين والعسكريين بالصعوبة البالغة التي ستواجه إسرائيل في تحقيق أهدافها الرئيسية المعلن بعضها في غزة، وعلى رأسها إسقاط حكم حماس في غزة، واستعادة الرهائن بالقوة والضغط دون صفقة. ومن الغريب أن حلفاء إسرائيل ومن بينهم أمريكا قد أوحوا أيضا بصعوبة تحقيق هذه الأهداف.

وتدخل الحرب الإسرائيلية على القطاع شهرها الرابع دون تحقيق إسرائيل أيا من تلك الأهداف. بل ما جنته إسرائيل حتى الآن جملة من الخسائر الفادحة وعلى رأسها انقلاب الرأي العام العالمي، وبعض من داعميها التقليديين لاسيما على المستوى الأوروبي ضدها، جراء عمليات قتل المدنيين الوحشية التي راح ضحيتها قرابة 26 ألف مدني. هذا فضلا عن حدوث بعض الشرخ في العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو الأخطر على إسرائيل.

وعليه، فمن البديهي في ضوء ذلك الفشل الذريع، أن تحدث إسرائيل بعضا من التحول في عملياتها في غزة، والذي قد يسير باتجاه تكثيف العنف بصورة جنونية. لكن يتبدى لنا بأنه يسير باتجاه التخفيف النوعي، واحتمالية عدم العودة لمستوى القصف الوحشي السابق.

ويمكن القول، إن فشل إسرائيل الذريع في تحقيق أهدافها في غزة، يمثل عنصر الضغط الرئيسي شديد الوطأة لهذا التحول. فإذا كان هناك بعض الضغوط الأخرى-التي سيأتي ذكرها- دافعة نسبياً لهذا التحول. إلا أن إسرائيل لا تعبأ بها بصورة كبيرة، مقارنة بضغط الفشل الذريع.

يتراءى لنا أن قيادة إسرائيل بعد أربعة شهور متواصلة من الهجمات الوحشية في غزة، قد تيقنت أنه لا مفر من تخفيف هذه الهجمات، واتباع نهج جديد على الأرجح سيقوم على الانتقائية؛ أي شن عمليات محدودة مركزة جوية وبرية تستهدف قيادات ومراكز حماس، وتتفادى قتل المزيد من المدنيين.

شنت إسرائيل هجمات إبادة عشوائية على غزة منذ طوفان الأقصى، كصورة من صور الانتقام الأعمى العشوائي، وامتصاص غضب الرأي العام الإسرائيلي الناقم على حكومته، والضغط على حماس للإفراج على الرهان المحتجزين، وتخويف حركات المقاومة المسلحة وخاصة حزب الله من مغبة تكرار طوفان الأقصى على الجبهة الجنوبية.

ومحصلة ذلك بعد أربعة شهور، هو الفشل الذريع، وتشويه سمعة إسرائيل، ولعل الأهم هو تزايد ضغط وسخط الرأي العام الإسرائيلي من فشل الحكومة في تحرير الرهان، والضغط على حماس. فالرأي العام الإسرائيلي-وفقا للعديد من استطلاعات الرأي- داعم بشدة لاستمرار هذه الحرب لاسيما حتى القضاء على حكم حماس في القطاع. لكنه ساخط بشدة من إدارة حكومته لهذه الحرب. ويتبدى لنا أن قطاعا لا يستهان به من الرأي العام الإسرائيلي، بدأ يدرك أن تحقيق أهداف إسرائيل في غزة باتت أمراً مستحيلاً، كذلك بدأ يدرك أن سياسة التخويف الوحشية التي تمارسها حكومته، سياسة فاشلة بامتياز في ردع حركات المقاومة المسلحة عن تهديد أمن إسرائيل.

وبالتالي، تأخذ حكومة نتنياهو في حسبانها احتمالية تنامي ضغط عام داخلي يرمي إلى إنهاء الحرب تماما وإتمام صفقة تبادل مع حماس، لاسيما في ضوء نزيف الخسائر الاقتصادية والمعنوية لإسرائيل. ولعل ذلك أخطر ما تخشاه حكومة إسرائيل، لأنه سيكون بمثابة هزيمة ساحقة وتهديد مزمن لوجود إسرائيل ذاته. ومن ثم، يبدو لإسرائيل أنه لا مفر من تعديل النهج بنهج أكثر انتقائية يضمن استمرار الضغط على حماس، وتهدئة الرأي العام الداخلي، وتخفيف الضغوط الخارجية.

ويمثل العامل الأمريكي أحد الضغوط الدافعة لهذا التحول. فرغم تأييد واشنطن الطبيعي للحرب على غزة منذ طوفان الأقصى. إلا أن حدة هذا التأييد قد شهدت بعضا من التراجع، كما تخلله بعض من الضغوط بشأن نهج وإدارة العمليات في غزة، ومستقبلها. يتبدى من الموقف الأمريكي تجاه غزة، لاسيما خلال الشهر الأخير، أن واشنطن بفضل وطأة ضغوط شديدة، تسعى إلى المحافظة على توازن يراعي مخاوف وأمن وضغوط إسرائيل، وفي الوقت عينه يحول دون اتساع نطاق الحرب إلى حرب إقليمية شاملة، كذلك تحويل القطاع إلى أكبر مقبرة بشرية جماعية في التاريخ.

لهذا السبب، شهدت العلاقات الأمريكية الإسرائيلية توترا كبيرا ربما غير مسبوق، بسبب العناد الإسرائيلي على التصعيد في غزة دون تحقيق الأهداف المرجوة. وبالتالي، فعلى الأرجح قد ارتأت حكومة إسرائيل أن تعديل النهج لاسيما النهج الانتقائي سيرضي واشنطن، التي لا تمانع من استمرار العمليات ضد حماس مراعاة لهواجس إسرائيل بشان وجودها، دون الحاجة إلى استمرار تصعيد وحشي سيفضي إلى قتل المزيد من المدنيين وجر إسرائيل إلى حرب إقليمية مفتوحة الجبهات.

ويتمثل العامل الأخير الدافع لهذا التحول هو الدعوة التي أقامتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بشأن جرائم الإبادة في غزة. والتي أصدرت فيها المحكمة حكماً تاريخيا ضد إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة في غزة، وفرض تدابير على حكومة إسرائيل لمنع إبادة جماعية في غزة.

ويعرف القاصي والداني أن المحاكمة يغلب عليها الطابع الرمزي إلى حد كبير، وأن قرارات المحكمة لم تنفذ حيث يتطلب تنفيذها موافقة مجلس الأمن الذي سيعرقل التنفيذ بالقطع عبر الفيتو الأمريكي-الإنجليزي. ومع ذلك، مثلت قرارات المحكمة صفقة قوية لإسرائيل، وإدانة عالمية واضحة العيان حيث صدر القرار بأغلبية، ستشكل بلا أدنى شك ضغطا قويا على إسرائيل لتعديل نهجها في غزة من الآن فصاعداً.

("الشرق") القطرية

يتم التصفح الآن