بصمات

تاريخ موجز للحداثة العربية (4/4)

يمكن أن نرصد ثلاث مراحل كبرى للتحديث في البلدان العربية، الأولى: مرحلة التنظيمات العثمانية والنهضة العربية في القرن التاسع عشر. الثانية: مرحلة الانتداب والاستعمار. الثالثة: مرحلة إقامة الأنظمة الوطنية.

تاريخ موجز للحداثة العربية (4/4)

تختلف المرحلة الأولى من التحديث زمنيًا ومكانيًا. بدأ التحديث العسكري بطيئًا في الدولة العثمانية في مطلع القرن الثامن عشر، لكنه اشتد في نهايته وتكرّس في عهد السلطان محمود الثاني (1808-1839) الذي قضى على القوات العسكرية التقليدية (الانكشارية). أما في مصر فإنّ التحديث مع محمد علي باشا بدأ بعد إمساكه بالسلطة والقضاء على خصومه، وقد ترافق تنظيم الجيش مع إرسال بعثات إلى أوروبا هدفها تحصيل العلوم التقنية المتعلقة بالعسكرية، وبغض النظر عن النتائج فإنّ التحديث العسكري قد امتدّ إلى ولاية بغداد في مطلع القرن التاسع عشر، وإلى تونس في وسط القرن التاسع عشر. وقد أدى الإصلاح عمليًا إلى تكوّن إدارة متخصصة.

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأت التأثيرات الثقافية الأوروبية تؤكد حضورها من خلال نُخب تلقت تعليمًا عاليًا في المعاهد التي أقيمت في استامبول أو القاهرة، فضلًا عن الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية في بيروت.

وفي الفترة نفسها انتشرت العمارة ذات النمط الغربي، ونشأ حيّز عمراني حديث لم يتوقف عن الاتساع، وتبقى تجربة الخديوي إسماعيل فريدة إذ شرع في إنشاء قاهرة جديدة مستعينًا بالخبرة الأوروبية الإيطالية أو الفرنسية على السواء.

كانت تلك المرحلة التي أصبح فيها الحصول على الخبرات مطلب الحكّام والنُخب، قد عرفت أيضًا تبنّي قيم الليبرالية والوطنية.

وقد ساد لفترة من الوقت التفاؤل بإمكانية استبعاد أسباب تقدّم أوروبا. والواقع أنّ التحديث كان آنذاك قد اقتصر على الفئات العليا من حكّام وميسورين ومتعلّمين من أبناء الملّاكين أو الذين انخرطوا في التجارة مع الغرب. كان التحديث مقتصرًا على فئات محدّدة.

الحقبة الاستعمارية أدت إلى إحلال طرائق الإدارة الحديثة في الدولة وتكوين الجمعيات والنقابات والأحزاب

شهدت المرحلة الثانية من التحديث تحت سلطة الاستعمار تبنّي بعض الدول التي انبثقت بعد الحرب العالمية للدساتير على النمط الغربي وتبنّي قيم الليبرالية السياسية، وقد مثّل استعمار الجزائر المبكر (1831) حالة خاصة من الاستيطان الغربي والتمييز العنصري بين المستعمرين والجزائريين. أما مصر وتونس اللتان شهدتا الاستعمار الإنكليزي والفرنسي في مطلع ثمانينات القرن التاسع عشر، فقد أوقد الاستعمار روح الوطنية في الوقت نفسه الذي حدث فيه انقسام حاد بين الحيّز العمراني الحديث وبين الحيّز العمراني القديم الذي هو المدينة التي تحتفظ بالتقاليد والعادات الموروثة. وظهرت تيارات أيديولوجية قومية واشتراكية معادية للاستعمار بالرغم من تأثّرها بالتيارات السياسية - الأيديولوجية في أوروبا. وقد استخدمت التقاليد الموروثة كأداة مقاومة للتغريب ونمت التيارات القومية والدينية من خلال مقاومة الاستعمار.

لكن الحقبة الاستعمارية مع تفاوت مداها الزمني، أدت إلى إحلال طرائق الإدارة الحديثة في الدولة، وتكوين الجمعيات والنقابات والأحزاب. فمن جهة تقهقر الإنتاج الحرفي بسبب منافسة البضائع الأوروبية، ومن جهة أخرى تطوّر الاقتصاد بالارتباط بالنمط الرأسمالي الغربي، وتكوّنت برجوازية مدينية، وكذلك الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار.

شهدت المرحلة الثالثة، أي مرحلة الاستقلال والتحرّر الوطني، بروز نمطين من التحديث يدوران حول النظام السياسي والصراع بين النظام الليبرالي وبين قوى اجتماعية توسلت القومية والاشتراكية، وكانت فترة الخمسينات والستينات من القرن العشرين مسرحًا للصراع بين هذين المفهومين للتحديث، يعكسان صراعًا بين البرجوازيات الوطنية ذات النزوع الليبرالي وبين التيارات العقائدية ذات النزوع الشعبوي، والتي تعبّر عن صعود أبناء الطبقات الوسطى والطبقات الدنيا وأبناء الأرياف وإصرارهم على الاستحواذ على السلطة باسم حقوق الشعب والعمال والفلاحين.

تزامن ذلك مع خطط تنموية أوصلت التعليم إلى المناطق البعيدة، وأوصلت الخدمات أيضًا إلى تلك المناطق فنشأ مفهوم جديد للتحديث يقوم على ديمقراطية التوزيع، في الوقت نفسه (الستينات) الذي بدأ فيه نمط الاستهلاك الرأسمالي ينتشر من العالم الغربي إلى العالم العربي.

حداثة هجينة سمتها الرئيسية تطويع التقاليد لأنماط التحديث في السياسة والثقافة والعمارة

فبالإضافة إلى ديمقراطية التعليم، نشأ ما يمكن أن نطلق عليه اسم ديمقراطية الأدوات، أي حق كل عائلة في الحصول على نصيبها من أدوات الرفاهية المنزلية. وتعزّز ذلك مع هجرات واسعة من الأرياف إلى المدن. مما أدى إلى حركة عمرانية واسعة هدفها تلبية حاجات الإسكان، دون مراعاة الشروط الجمالية الهندسية التي كانت تحرص عليها الفئات الاجتماعية العليا من المجتمع. ولم تعد الحداثة الغربية تتمثّل بأولئك الذين يحسنون اللغات الأجنبية ويتمثلون قيم الحداثة الغربية.

وفي الوقت نفسه الذي سقطت فيه الرموز التي تدل على أصول السكان ومناطقهم وعقائدهم، مثل الحجاب والطربوش والسروال والعقال وتوحدت الأزياء وفق النمط الغربي، صار بإمكان كل الطبقات أن تتزيا بالأزياء نفسها ذات المصدر الغربي في الوقت الذي تصاعدت فيه موجات ودعوات العداء للغرب.

كل ذلك أفضى إلى حداثة هجينة سمتها الرئيسية تطويع التقاليد لأنماط التحديث في السياسة والثقافة والعمارة.


لقراءة: الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن