الحس الإنساني الذي يتنامى تجاه الإنسان وحقوقه؛ وخاصة الحقوق الأساسية، وأولها: الحق في الحياة، إنها ثقافة إنسانية صنعت الضمير الإنساني، وتوارثتها الأجيال عبر تاريخ البشرية، لتكون الصورة المثلى للحياة هي الحياة نفسها.

لقد سعت البشرية، خاصة بعد الثورة الصناعية الكبرى، وقبلها تجسدت رسالة السماء إلى الأرض في أسمى صورها، من أجل تنقية السلوك البشري من الكراهية، وما يتولد عنها من عداء واقتتال، وكل ما من شأنه أن يُعرّض الحياة الإنسانية لمزيد من البؤس والشقاء والخوف والفقر والتشرد والظلم، خاصة حين يكون ظلماً جماعياً يستهدف المجتمع بأسره، وهذه هي المأساة الحقيقية التي طمست صوت الضمير فتصاعد ضجيج الأهواء فغاب الأمل في حياة إنسانية كريمة.

إن الإنسانية تعيش اليوم حالة دنيئة من الانتكاس الحضاري، تؤكد تراجع القيم الإنسانية، وخير شاهد على ذلك، إعلان العديد من الدول الغربية، التي تتزعم الدفاع ليس عن حقوق الإنسان فقط، بل حقوق الحيوان فيما يُسمى بجمعيات الرفق بالحيوان التي تنفق عليها تلك الدول ملايين الدولارات، ها هي نفس الدول تعلن إيقاف دعمها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، بسبب مزاعم إسرائيلية تفيد بأن أشخاصاً يعملون بها قدموا دعماً للمقاومة الفلسطينية في عملية 7 أكتوبر(تشرين الأول) الماضي. لقد سارعت تلك الدول إلى اعتماد الرواية الإسرائيلية، فبدأت على التوالي في قطع مساعداتها عن تلك الوكالة في خطوة يمكن تفسيرها بأنها تهدف إلى زيادة معاناة الشعب الفلسطيني.

والمحزن في الأمر أن قطع المساعدات عن الوكالة لن يضر فلسطينيي غزة فقط؛ بل جميع اللاجئين الفلسطينيين في دول مثل: الأردن والضفة الغربية ولبنان وسوريا، والذين يعيشون، في معظمهم، على هذه المساعدات.

وقد تأسست «وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى» بعد حدوث النكبة عام 1948، حيث تم تهجير نحو سبعمئة وخمسين ألف فلسطيني من مدن وقرى فلسطين نحو المناطق المجاورة، ومنها منطقة غزة التي يوجد فيها أكبر تجمع لفلسطينيي الشتات. وبالفعل فقد قدمت الكثير من المساعدات لهؤلاء اللاجئين الذين أصبح عددهم اليوم أكثر من خمسة ملايين لاجئ.

ورغم أن الوكالة لا تتلقى الدعم من دول الغرب فقط، لأنها وكالة دولية تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة، لكن هذه الدول كانت الأكثر سخاء في تقديم المساعدات لها، وإيقاف تلك الدول لمساعداتها سوف يلحق أضراراً بالغة بهؤلاء اللاجئين، إن لم يكن جميعهم، فعلى الأقل سيتأثر الكثير منهم بهذا القرار. خاصة أن هذه الخطوة الغربية تجاه هذه الوكالة، قد لا ترتبط بأحداث غزة بقدر ارتباطها بتراجع الاقتصاد في تلك الدول، ذلك أنه منذ عدة سنوات بدأت دول الغرب المانحة للأونروا خفض حجم مساعداتها ما ترك آثاراً سلبية على عمل هذه الوكالة في مخيمات اللجوء الفلسطيني.

وكان المفوض العام للأونروا فليبي لازاريني، قد حذّر مؤخراً، من أن النقص طويل الأمد في تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى بات يمثل الآن تهديداً «وجودياً». وقد استمر تجاهل مطالب الوكالة في زيادة المساعدات لها، حتى هذا الوقت الذي اتخذت فيه دول الغرب المانحة من أحداث غزة سبباً للإعلان عن وقف مساعداتها بالكامل للوكالة.

ولا شك أن الموقف الغربي سوف يزيد من آلام وعذابات الشعب الفلسطيني في فلسطين، مما يتطلب تدخلاً سريعاً من الدول العربية الملتزمة أساساً بقضية فلسطين، حيث إنه من الصعب أن يُترك الشعب الفلسطيني لمصيره في هذا الوقت العصيب، ولا سيما أن إسرائيل لا تبدي أية ليونة تجاه هذا الشعب وتجاه حقه في إقامة دولة خاصة به على أرض فلسطين. فلو تمّ إقامة هذه الدولة فإن عذابات هذا الشعب سوف تنتهي.

ويبدو أن الولايات المتحدة قد أصبحت مقتنعة بفكرة حل الدولتين، الذي تراه بأنه «أمر مهم لتعزيز الاستقرار في المنطقة على المدى الطويل». وهذا الموقف الأمريكي الجديد قد فرضته الحرب المفتوحة على غزة، والتي عززت من حضور قضية فلسطين على الساحة الدولية، ولا سيما بعد قرار محكمة العدل الدولية لها ومطالبتها «بمنع وقوع إبادة جماعية والالتزام بتجنب كل ما يتعلق بالقتل والاعتداء والتدمير بحق سكان غزة، وأن تضمن توفير الاحتياجات الإنسانية الملحّة في القطاع بشكل فوري».

آن الآوان أن تفرض الإرادة السياسية للمجتمع الدولي عبر مؤسساته الرسمية، حلاً لتلك الأزمة التي طالت، فحلُّ الدولتين ظل مطروحاً لعدة عقود، لكنه لم يلق آذاناً تصغي لصوت العقل، وتغلب إرادة السلم، وأدى هذا التراخي إلى صعود جيل من المتطرفين السياسيين يمسكون بزمام الأمور مما زادها تعقيداً، والأبرياء هم من يدفعون الثمن. فهل نصغي لصوت العقل، لنحفظ حياة الإنسان، ونضمن لها حياة آدمية تليق بالبشر؟!.

("الخليج") الإماراتية

يتم التصفح الآن