الحديث المتداول خلال الأيام الماضية عن هدنة طويلة، طرح تساؤلات عما إذا كان هناك تراجع في موقف المقاومة أم أنّ الأمر يرتبط بتفاصيل عادة ما "يسكن بها الشيطان"، وكواليس متعلقة بمفاوضات شاقة قادها الوسطاء في مصر وقطر، وسط مشهد معقد بحسابات سياسية خاصة في إسرائيل، وأخرى أمريكية متعلقة بصراعات أوسع في الإقليم مع دخول الاستعدادات للانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة مراحل حاسمة وتصاعد موجة الرسائل العسكرية المتبادلة بين طهران وواشنطن مؤخرًا.
ثمة تساؤلات أخرى باتت مطروحة بقوة بشأن طبيعة الاتفاق المزمع الإعلان عنه والمبادئ الحاكمة له، وما إذا كان يضع حدًا لاستمرار العدوان على القطاع، وإنهاء معاناة الغُزيين وذلك في أعقاب تصريحات المتحدث باسم الخارجية القطرية ماجد الأنصاري التي أشار فيها إلى أنّ مقترح الهدنة الذي توصل إليه اجتماع باريس ووافقت عليه تل أبيب، لقي ترحيبًا أوليًا من حركة "حماس"، مستدركًا في الوقت نفسه أنّ الحركة لم تقدّم ردها النهائي حتى الآن، وأكد على أن الطرفين - الاحتلال والمقاومة - اتفقا على الجوهر الذي يمكن أن يقود للهدنة الإنسانية القادمة.
يأتي ذلك في الوقت الذي كشف فيه مصدر في حركة "حماس" لـ"عروبة 22" عن تأجيل زيارة كانت مقررة لوفد من الحركة إلى العاصمة المصرية القاهرة للتباحث بشأن تفاصيل متعلقة بالصفقة المرتقبة، موضحًا أنّ تأجيل الزيارة جاء لمزيد من التشاور مع فصائل المقاومة في القطاع، حول مجموعة من التفاصيل الواردة باتفاق باريس والضمانات المطروحة بشأن عدم استئناف الحرب من جانب جيش الاحتلال عقب انتهاء الهدنة المقترحة.
ويسود تخوّف في أوساط المقاومة من معاودة جيش الاحتلال للحرب على القطاع عقب تحرير الأسرى الأسرائيليين، رغم تأكيدات الوسطاء بصعوبة حدوث ذلك عقب انتهاء الهدنة.
وكان من المقرر وصول رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية إلى القاهرة على رأس وفد قيادي من الحركة الخميس الماضي، قبل أن يتم تأجيل الزيارة. ومن المتوقع أن يصل هنية ووفد "حماس" إلى القاهرة خلال ساعات، بعد اجتماعات مكثّفة تجريها فصائل المقاومة للوصول إلى موقف موحّد بشأن بنود اتفاق باريس، في غضون ذلك التقى هنية برئيس الاستخبارات التركية، إبراهيم قالن في العاصمة القطرية الدوحة أمس الأول، السبت، في محاولة من أنقرة لإقناع الحركة بالقبول ببنود الاتفاق الذي يحظى بدعم أمريكي وأوروبي، وتعتبره تركيا فرصة لإنهاء الحرب.
"الجهاد".. والتوجه الإيراني
ويتزامن هذا مع قيام وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بجولة جديدة في الشرق الأوسط، تشمل السعودية ومصر وقطر وإسرائيل والضفة الغربية بهدف دفع جهود التوصل للصفقة والتباحث حول اليوم التالي للحرب.
وضمن العقبات التي تسببت في تأجيل زيارة وفد "حماس" إلى القاهرة، موقف حركة "الجهاد الإسلامي" المتشدّد، والتي لا تزال تتمسك بإعلان إسرائيل وقفًا شاملًا لإطلاق النار، وهو ما تحاول "حماس" وعدد من العواصم العربية المنخرطة في المفاوضات إقناع الحركة بالقبول بالهدنة لاعتبارات عدة على رأسها معاناة الشعب الفلسطيني في غزّة، إلا أن موقف "الجهاد" يبدو أنه متّسق مع التوجه الإيراني في هذه اللحظة حيث لا تسعى طهران إلى وقف الحرب بالطريقة المطروحة راهنًا، إنما تريد أن تفرض رؤيتها على المشهد، لذا دفعت بـ"الجهاد" باعتبارها أقرب فصائل المقاومة إليها إلى عرقلة الاتفاق الذي جرى بمعزل عنها.
وقف أم تعليق؟
عقب انتهاء الهدنة الماضية في الأول من ديسمبر الماضي/كانون الأول الماضي، أعلنت قيادات "حماس" وقادة الفصائل المنخرطة في المقاومة، التمسك بوقف شامل لإطلاق النار طالما رغبت تل أبيب في تحرير أسراها أحياء، وشددوا على أن مرحلة الهدن قد انتهت ولا يمكن العودة لها.
أما مشروع الاتفاق الجديد الذي تم بلورته في اجتماع باريس وشارك فيه المدير العام لوكالة الاستخبارات الأمريكية وليام بيرنز، ورئيس جهاز المخابرات العامة المصري اللواء عباس كامل، ورئيس وزراء قطر محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، ورئيس الموساد الإسرائيلي ديفيد برنيع، ورئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي "الشاباك" رونين بار، فيقوم على هدنة طويلة يتخللها عدة مراحل تصل في مجملها إلى شهرين ونصف الشهر دون إعلان واضح ومكتوب بشأن عدم استئناف الحرب وإطلاق النار مرة أخرى.
في هذا الإطار يقول قيادي فصائلي بارز مطّلع على تفاصيل المفاوضات الجارية بشأن وقف إطلاق النار في غزة: "نحن جميعًا متوافقون على مبدأ إنهاء الحرب ومعاناة أهلنا في القطاع"، وأضاف لـ"عروبة 22": "رغم عدم وجود ما ينص على وقف شامل لإطلاق النار ضمن بنود الاتفاق، إلا أنّ هناك تفاهمات واضحة بشأن ذلك مع الوسطاء، الذي تحدثوا عن محاولتهم الحصول على ضمانات بعدم استئناف إسرائيل للحرب مجددًا في عقب حصولها على أسراها".
وأوضح أنّ ما سيتم الإعلان عنه هو "تعليق للعمليات الحربية" خلال الفترة المشار إليها ضمن الاتفاق المطروح، لكن في التفاصيل هناك توافق عام بين الجميع - الفصائل والوسطاء وتل أبيب وواشنطن- على عدم استئناف الحرب مرة أخرى.
ويرى القيادي الفصائلي أنّ هناك مساعي حثيثة من جانب الإدارة الأمريكية "لفتح طريق العودة أمام الحكومة الإسرائيلية من مسار مسدود يُمثّل فيه التقدّم أي خطوة للأمام خسائر فادحة وأي تراجع غير مُهندَس هزيمة ساحقة"، ويقول: "جوهر تحرك الإدارة الأمريكية حاليًا هو مساعدة تل أبيب على النزول من فوق الشجرة.. وإذا كان الاتفاق لا ينص على وقف شامل لإطلاق النار منذ لحظة تدشينه الأولى لكنه سيتضمن وقفًا طويلًا يصعب معه العودة للقتال مرة أخرى، فالإدارة الأمريكية وحكومة الاحتلال يرون في الإعلان المباشر عن وقف شامل لإطلاق النار إعلانًا رسميًا لهزيمة إسرائيل، وهو ما يهرب منه نتنياهو منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لذلك يتم إخراج مشهد يُجنّب الاحتلال صورة المهزوم، ويساعده على الترويج لفكرة أنه خرج من الحرب منتصرًا".
مبادئ الاتفاق
بمحاذاة الحديث حول ماهية الاتفاق المرتقب تفعيله منتصف الأسبوع الجاري حال لم يصطدم بأية "حماقات" من جانب نتنياهو أو شركائه في اليمين المتطرّف، أكد قيادي بحركة "حماس" على أنّ "هناك ثلاثة مبادئ واضحة وحاكمة للاتفاق، وهي الانسحاب الإسرائيلي الكامل من قطاع غزّة بنهاية الاتفاق، والوقف الكامل لإطلاق النار، وإعادة الإعمار دون قيود"، مؤكدًا لـ"عروبة 22" أنّ "هناك ما يفيد بموافقة إسرائيل على ذلك".
وبحسب ما كشفته مصادر "عروبة 22"، فإنّ إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، سيؤمّن خروج نحو 4 آلاف أسير فلسطيني من السجون الإسرائيلية، بينهم فئات كانت تل أبيب تعتبر الحديث عنهم "خطًا أحمر"، وفي مقدمة هؤلاء عبد الله البرغوثي أحد مؤسسي "كتائب القسام" في الضفة الغربية والصادرة بحقه أحكام يصل مجموع عقوباتها إلى 70 عامًا.
وتقدّر حكومة الاحتلال أسراها المتواجدين في قطاع غزّة، بـ136 أسيرًا، بينهم نحو 27 جثة لأسرى سقطوا خلال العدوان العسكري الإسرائيلي على القطاع أو أثناء محاولات تحريرهم، ومنهم نحو 55 ضابطًا ومجنّدًا في الخدمة العسكرية.
ووفقا للمصادر ذاتها، فإنّ الفترة الراهنة والتي تسبق إعلان حركة "حماس" وباقي فصائل المقاومة موقفها النهائي من الاتفاق، تتضمن مناقشات حول تفاصيل وصياغات مراحل وبنود الاتفاق، والتي من بينها تحديد عدد الأسرى الفلسطينيين الذين سيتم إطلاق سراحهم مقابل كل أسير إسرائيلي وفقًا لطبيعته، إذ تتراوح الأعداد المقترحة بين 100 إلى 250 مقابل العسكريين.
"ترتيب المراحل"
كذلك من بين التفاصيل التي يتم التشاور بشأنها "ترتيب المراحل"، حيث ترى "حماس" وفصائل المقاومة إرجاء إطلاق سراح العسكريين الذين تم أسرهم بالزيّ العسكري إلى المرحلة الأخيرة من الاتفاق وليست الثانية كما تقترح إسرائيل.
وتتضمن الخطوط العريضة التي تم التوصل لها في اجتماع باريس، ثلاث مراحل، تشمل الأولى؛ إطلاق سراح عدد يتراوح بين 35 إلى 40 أسيرًا إسرائيليًا من بينهم كبار السن فوق الستين عامًا والنساء من غير المجنّدات ومن هنّ في سن الاحتياط، والمصابون وحالاتهم بالغة الخطورة.
أما المرحلة الثانية؛ فتشمل إطلاق المقاومة سراح الأسرى العسكريين، فيما تتضمن الثالثة تسليم الجثامين، وهنا يأتي التباين إذ ترى "حماس" أنّ تسليم العسكريين يحب أن يكون في المرحلة الأخيرة، كون ذلك بمثابة ضمانة تفاوضية لإلزام إسرائيل بتنفيذ بنود المراحل السابقة.
في السياق نفسه يُطرح في أوساط الوسطاء، اقتراح "وسط" لتقريب وجهات النظر، بحيث تشمل المرحلة الثانية إلى جانب الجثامين، إطلاق سراح الأسرى الرجال دون سن الستين، ومن هم في سن الاحتياط ويتم استدعاؤهم للخدمة في الجيش، مع إرجاء العسكريين النظاميين للمرحلة الثالثة.
بعد مارثون المفاوضات الأخيرة، لم تعُد الإشكالية في التوصل إلى وقف إطلاق النار أم هدنة، إذ صارت الأزمة تتمحور حول الإجابة على سؤال: "ماذا بعد التوصّل للقرار في ظل ولادة متعثرة لتصوّر أو تفاصيل "اليوم التالي" لوقف الحرب تارة، وتارة أخرى بسبب التجارب السابقة؟"، حيث يتم الاستغراق في تفاصيل بيروقراطية وتشكيل لجان مختلفة ينتهي بها المطاف إلى بقاء الأمر على ما هو عليه، لكن ربما يكون المخرج هذه المرة في "هدنة طويلة الأمد" كما يرى قيادي بارز في حركة "حماس"، قد تصل إلى 10 سنوات شريطة كسر الحصار وضمان إعادة إعمار القطاع المدمّر.
(خاص "عروبة 22")