غير أنّ إنجاز المقاومة لم يتمثّل في صمودها الأسطوري فحسب، بل ولا حتى في الخسائر الموجعة التي ألحقتها بالقوات الإسرائيلية، وإنما امتد ليحقق إنجازات ذات طابع استراتيجي لا علاقة مباشرة لها بساحة القتال، وأول هذه الإنجازات وأهمها أنّ "طوفان الأقصى" قد صحّح جدول الأعمال في المنطقة بإعادة القضية الفلسطينية إلى مكانها الطبيعي في صدارة جدول أولويات النظامين العربي والشرق الأوسطي، فقبل ٧ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٣ بدا أنّ مشكلة المنطقة قد تمركزت في كيفية إخراج التطبيع بين إسرائيل وباقي الدول العربية التي لم تستقل قطار التطبيع بعد، وكان نتنياهو يؤكد بغروره الغبي أنّ ما يُسمى بقضية فلسطين سوف يُحَل (يقصد يُصَفَّى) من خلال استكمال السلام مع العرب، أما الآن فها هي القضية رغم كل الدمار والوجيعة والآلام تتربع على صدارة الأولويات في المنطقة، وتفرض نفسها على الأعداء والأصدقاء على السواء.
دفع الشعب الفلسطيني ومقاوموه ثمنًا فادحًا مقابل إنجازات غير مسبوقة
وقبل "الطوفان" كانت إسرائيل تروّج من جديد بصلافة لأسطورتها القديمة التي ضُرِبَت في حرب أكتوبر/تشرين الأول المجيدة ١٩٧٣ القائمة على فكرة الجيش الذي لا يُقهر، لتعيد المقاومة في غزّة مجددًا توجيه لطمة قاسية لهذا الجيش تمثّلت في خسائره الباهظة في المعدات والأرواح التي أجبرته على الاعتراف بأنّ حربه الحالية هي الأصعب والأطول منذ حرب النشأة في ١٩٤٨، وقد أحدث هذا انقسامًا سياسيًا متزايدًا في إسرائيل داخل النخبة السياسية عمومًا والنخبة الحاكمة خصوصًا، وبينها وبين النخبة العسكرية سواء تمثّلت في القيادة العسكرية أو العسكريين المتقاعدين، وتأتي بعد ذلك الضغوط التي تمارسها أُسر الأسرى والرهائن لتأمين استعادتهم أحياء بعد الفشل الذريع في تحريرهم بالقوة، وصحيح أنّ الرأي العام ما زال في أغلبيته موحّدًا خلف الحرب وأهدافها التي حدّدتها القيادة إلا أنّ بدايات التمرّد بدت واضحة.
أما الخسائر الاقتصادية فحدّث عنها ولا حرج، سواء تمثّل ذلك في تكلفة العمليات العسكرية ذاتها، أو في الشلل الجزئي في الاقتصاد نتيجة استدعاء ما قُدّر بـ٣٦٠ ألف جندي للمشاركة الفعلية في القتال والتراجع الحاد في السياحة إن لم يكن انهيارها، وغير ذلك مما يجعل التكلفة الاقتصادية للحرب باهظة للغاية (قُدّرت في نوڤمبر الماضي بأكثر من٥٠ مليار دولار)، ناهيك باستمرار تأثير الحرب على الاقتصاد في ٢٠٢٤.
وخارج إسرائيل ودائرة تأييدها الأمريكية والأوروبية شهدت الساحة الدولية تغيّرات حقيقية في مزاج الرأي العام العالمي نتيجة الوحشية الإسرائيلية، وقد كان لهذه التغيرات تأثيراتها على دوائر صنع القرار في الغرب المتحيّز لإسرائيل، وإن لم تتجاوز حتى الآن التأثير على الخطاب السياسي بحيث أصبح أقل فجاجة في التعبير عن الانحياز لإسرائيل، والأمل معقود على استمرار هذه التطورات وتصاعدها مع تواصل الهمجية والوحشية الإسرائيليتين، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ التحركات المحمومة للمسؤولين الأمريكيين والبريطانيين تشير إلى شعورهم بمخاطر خروج الأوضاع عن السيطرة.
كواليس المطابخ السياسية تريد الالتفاف على صمود المقاومة وإنجازاتها بصيغ مشبوهة
وقد دفع الشعب الفلسطيني ومقاوموه ثمنًا فادحًا مقابل هذه الإنجازات غير المسبوقة تمثّل في فقد ما يقرب من١٠٠ ألف من سكان غزّة ما بين شهيد ومفقود ومصاب، ناهيك بتدمير إسرائيل شبه الكامل لغزّة وما فيها من مستشفيات وجامعات ومدارس ومؤسسات الحكم والاقتصاد والبنية التحتية والمعالم الأثرية بل والأرشيف الوطني، وكلها أعمال تؤكد النوايا الإسرائيلية الحقيقية لجعل غزّة مكانًا غير صالح للحياة استكمالًا لتنفيذ المشروع الصهيوني الاستيطاني، وسوف يبقى هذا الخطر قائمًا طالما لم يتوقف إطلاق النار، فضلًا أنّ ما وقع من أضرار حتى الآن من قتل ودمار وحشيين لا شك سوف يعقّد الأمور كثيرًا بعد انتهاء القتال.
ولذلك فإنّ الأولوية القصوى الآن لوقف إطلاق النار، وتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية في وجه محاولات التفرقة وبث الوقيعة بين الفصائل الفلسطينية، والحذر من مقترحات الحلول الشوهاء التي تطل برؤوسها علينا بين الفينة والأخرى من داخل كواليس المطابخ السياسية التي تريد الالتفاف على صمود المقاومة وإنجازاتها بصيغ مشبوهة من شأنها تصفية هذه الإنجازات لا قدّر الله، غير أنّ الشعب الفلسطيني البطل وقادته الشرفاء قادرون بإذن الله على الوصول بنضالهم إلى بر الأمان.
(خاص "عروبة 22")