تقدير موقف

"مهما كان اختلافنا .. أحبُّك"

هل هناك خلافٌ؛ يمكن البناء عليه بين الإدارة الأمريكية؛ متمثلة في الرئيس، وبين اليمين الحاكم في إسرائيل؛ متمثلًا في نتنياهو؟ المقال/السؤال الذي طرحتُه في هذا المكان قبل أسبوعين، وأجبتُ عليه بأن "لا خلاف حقيقي هناك، وإن بدا غير ذلك" استدعاه الفيتو الأمريكي (الثالث) قبل أيام حمايةً لاستمرار العدوان.

صحيحٌ أنّ الفيتو الصادم، على فجاجته لم يكن مفاجأة حتى لأولئك "المتفائلين" الذين حاولوا لأسابيع الاطمئنان إلى أخبار "جرى تسريبها بانتظام" عن اختلافات بين الرجلين، إلا أنّ الاعتقاد، الذي ما زال سائدًا - وله ما يبرره - بمقولة السادات الشهيرة التي تقول بأنّ "99٪ من أوراق اللعبة في يد واشنطن"، جعل الانشغال بتفسير الموقف الأمريكي، أو بالأحرى موقف الرئيس مبررًا ومفهومًا، بل وربما ضروريًا.

دون الخوض في جدال طويل حول المؤسسية في النظام السياسي الأمريكي، إلا أنني من الذين يرون أنّ قراءة عقل الرئيس في مثل هكذا نظام تبقى ضمن الأدوات المهمة في تحليل القرارات والمواقف والسياسات.

أرجوكم تمعّنوا في تلك العبارة جيدًا: "بيبي، أنا لا أتفق مع ما تقوله من أشياء ملعونة.. لكنني أحبك".

العبارة "الحميمة"، والتي ربما تختصر المسألة كلها، كتبها الرئيس الأمريكي على صورة قديمة تجمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي. والقصة حكاها جو بايدن نفسه، في حفل الاستقبال الذي أقيم بالبيت الأبيض في الحادي عشر من ديسمبر الماضي احتفالًا بعيد الأنوار اليهودي "Hanukkah".

العبارة "الموجِزة" ذاتها، والتي ذكّرنا بها بايدن قبل أسابيع، وكررها في أكثر من مناسبة، كان قد حرص على أن يلفت انتباه أصدقائه الإسرائيليين إليها قبل أكثر من عشر سنوات، حين كان نائبًا للرئيس، وكانت العلاقات وقتها بين رئيسه؛ باراك أوباما ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تشهد برودًا غير مسبوق في العلاقات التاريخية بين البلدين.

ما يفعله بايدن الآن في تعامله مع حرب غزّة متطابقًا مع ما فعله حين شنت إسرائيل حربها السابقة في مايو 2021

في مايو/أيار 2012 وفي تجمّع للحاخامات في مدينة أتلانتا، حكى جو بايدن الحكاية، ربما للمرة الأولى. بعد ذلك بعامين، وكان الخلاف الذي كان مكتومًا بين أوباما ونتنياهو لم يعد مكتومًا، تصادف أن ذهب بايدن (نائب الرئيس) ليلقي كلمة أمام الجمعية العامة للاتحاد اليهودي لأمريكا الشمالية. يومها لحظ السفير الإسرائيلي رون ديرمر بين الحضور، فلم يتردد في أن يقطع كلمته ليناديه من على المنصة "أرجو أن تبلغ بيبي - يقصد نتنياهو - أننا ما زلنا أصدقاء"، ثم حكى قصة الصورة القديمة وعبارة الإهداء الشخصية جدًا عليها. مردفًا ما نصه: "أنا أقول ما أعنيه".

كان نائب الرئيس وقتها يقول فعلًا ما يعنيه، وما أثبتت الأيام أنه "يعنيه". في كتاب عن كواليس إدارة بايدن صدر في سبتمبر الماضي لفرانكلين فوير المحرر السابق لـ"The New Republic", بعنوان "آخر سياسي"، نكاد نرى أنّ ما يفعله بايدن الآن في تعامله مع الحرب الإسرائيلية على غزّة متطابقًا مع ما فعله حرفيًا من قبل حين شنت إسرائيل حربها السابقة في مايو/أيار 2021. يومها لم يكن الديموقراطيون، وخاصة الذين عملوا مع أوباما يحملون مشاعر طيبة لنتنياهو الذي كان قد تجاوز كل القواعد المتعارف عليها بين البلدين حين قام بتأييد دونالد ترامب علنًا أمام هيلاري كلينتون، وبتحديه أوباما بقبول دعوة الجمهوريين للتحدث أمام الكونجرس 2015 منتقدًا بكل حدة وسخرية الاتفاق النووي مع إيران الذي كان باراك أوباما يسعى إليه.

في مايو/أيار 2021 كان لنتنياهو مصلحة انتخابية خاصة في أن تستمر حربه على غزّة لمدة طويلة. يومها يقول كل من تحدثوا إلى فوير من المسؤولين في البيت الأبيض أو في الحزب الديموقراطي، كان موقف بايدن العملي متماهيًا مع ما يريده نتنياهو، ولذا لم يستجب لنصائحهم بإصدار الإعلان التقليدي بـ"المطالبة بضبط النفس"، مكتفيًا بالاتصالات الهاتفية شبه اليومية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، ليسأله كل مرة عن خطته على الأرض.

علاقة جو بايدن بالصهيونية وإسرائيل "الحلم الصهيوني" بدأت في طفولته

"Help me understand your strategy" هكذا كان يقول الرئيس لصديقه في كل اتصال، كما حكى مساعدوه لفوير، ولم يكن الاتصال أبدًا يُفضي إلى تغيير على الأرض إلى أن قصف الإسرائيليون البناية التي كانت تضم مكاتب المراسلين الأجانب في غزّة، وبينها الـ"أسوشيتدبرس" الأمريكية، فكان أن اضطر الصديقان إلى "التوقف ها هنا".

بدأت العلاقة الشخصية بين الصديقين في الثمانينيات عندما كان بنيامين نتنياهو يعمل في سفارة بلاده في واشنطن، ولكن علاقة جو بايدن بالصهيونية وإسرائيل "الحلم الصهيوني" بدأت قبل ذلك بكثير. كان بايدن، في السادسة من العمر حينما نشأت الدولة اليهودية. ويحكي لنا في سيرته الذاتية Promises to Keep كيف كان أبواه المتديّنان يحكيان للطفل الصغير على طاولة العشاء عن الهولوكوست والفظائع التي ارتكبها النازي بحق اليهود.

في مارس/آذار 2013 وفي عشاء للأيباك (AIPAC)؛ المنظمة اليهودية الأكبر في الولايات المتحدة استدعى بايدن ذكريات العشاء العائلي القديم ليحكي: "على طاولة العشاء العائلية تلك تعلّمت أنّ الطريقة الوحيدة لضمان عدم حدوث محرقة أخرى هي إنشاء ووجود دولة إسرائيل يهودية آمنة".

ربما كانت الحسابات السياسية كالعادة كامنة في عشاء الأيباك، وهي كذلك بالتأكيد، إلا أنّ من قرأ كتاب جو بايدن (الأب) العاطفي جدًا "Promise me, Dad" عن ابنه البكر الذي مات شابًا بالسرطان، يمكنه أن يفهم، وأن يأخذ أيضًا في الاعتبار كيف كان السياسي الهرم قد تأثّر صغيرًا بحكايا طاولة العشاء، ولماذا حرص شابًا على أن يأخذ كل أبنائه ثم أحفاده لزيارة معسكر اعتقال داخاو Dachau ومن أين جاءت عبارته التي يحرص على تكرارها: "ليس بالضرورة أن تكون يهوديًا لتكون صهيونيًا".

لم يكن جو بايدن يهوديًا بالهوية أو بالميلاد، إذ ولد لأسرة متديّنة تتبع كنيسة "روما الكاثوليكيّة"، ولكن دون أي تشكيك لا يليق، ولا أهمية له في نقاء معتقده، يبقى دالًا، وإن كان من ناحية "المعتقدات السياسية"، أو ربما الحسابات الانتخابية احتفاء اليهود بما جرى في أوهايو 2016، حين كان يحضر مناسبة سياسية، كنائب للرئيس، وأعرب أحد الحضور عن إعجابه بصدق إيمانه. فكان أن ردّ عليه بايدن مازحًا: "إن كنتُ سأبدل ديانتي، فأنا أعرف تمامًا إلى أين سأذهب"، ثم مضى ليصف كومة القبعات اليهودية التي جمعها بحضوره للمناسبات اليهودية. يومها أيضًا، حرص على أن يعبّر عن فخره بأنه "الكاثوليكي الأيرلندي الوحيد الذي حقق حلمه بتزويج ابنته إلى جراح يهودي".

وكعادته في تكرار حكاياته ذات الصلة، كان بايدن قد أشار إلى مجموعته من القبعات اليهودية تلك في تجمع يهودي كبير في ديترويت 2011 حين قال للحاضرين إنه ربما يكون من بين قلة من المسيحيين التي تعرف كيف تتلو الـ motzi (إحدى الصلوات اليهودية).

رغم حقيقة أنّ الحسابات والمجاملات ربما كانت وراء كثير من تصريحات السياسي الأمريكي المخضرم، ورغم حقيقة أنّ زيجات أبنائه الثلاثة من يهود ويهوديات قد لا تعني الكثير، إلا أننا هنا، للتوضيح نتحدث عن السيكولوجيا والنفس الإنسانية. وفي التفاصيل هنا ما قد يعني الكثير.

"مهما كان اختلافنا .. أحبك"، أتعرفون متى كتب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية عبارته الحميمة تلك على الصورة التي تجمعه بصديقه القديم؟

عبارة توفّر الكثير على مروّجي الخلاف بين الصهيوني اليهودي والذي "ليس بالضرورة أن يكون يهوديًا ليكون صهيونيًا"

تقول القصة الدالة إنّ ذلك كان في مارس/آذار 2010 حين هبطت طائرة بايدن؛ نائب الرئيس في ذلك الوقت في تل أبيب ليجد الحكومة الإسرائيلية التي يرأسها بنيامين نتنياهو استبقت زيارته بالإعلان عن خطط لتوسعات استيطانية جديدة في الأراضي المحتلة، في تحدٍ بدا متعمّدًا لموقف إدارة أوباما المعلن بعدم شرعية الاستيطان. لم يكن التحدي الإسرائيلي "المحرج" للأمريكيين الأول من نوعه، كما يخبرنا مارتن إنديك الدبلوماسي الأمريكي المخضرم في تعليقه على الواقعة.

نصح الدبلوماسيون يومها نائب الرئيس بإظهار غضبه، وإلغاء العشاء الرسمي الذي كان مقررًا مع رئيس الوزراء، إلا أنّ بايدن الذي رفض النصيحة، ذهب مع زوجته إلى العشاء، وعلى الطاولة، كما حكى نتنياهو لاحقًا كان الحديث عائليًا وحميمًا. حكى فيه بايدن لنتنياهو عن مشاعره حيال وفاة زوجته الأولى وابنته في حادث سيارة، ثم كان أن أهدى لصديقه الصورة التي كتب عليها عبارته التي تشرح الكثير، وتوفّر الكثير على أولئك المروّجين لوجود خلاف (يمكن البناء عليه) بين هذا الصهيوني اليهودي وذاك؛ الذي "ليس بالضرورة أن يكون يهوديًا ليكون صهيونيًا"، كما أخبرنا بنفسه.

يبقى أنّ صهيونية جو بايدن "العائلية/العقائدية/العاطفية"، لا تختلف، ولا تزيد عن صهيونية دونالد ترامب "السياسية/الميكيافيلية/الانتهازية".. لذا لزم التنوية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن