على مدى قرن كامل لم يتوقف الشرق الأوسط عن الحروب على اتساع مساحته الشاسعة، ضاقت خرائطه بأنهار الدماء والخسائر والفوضى والاستقطابات المفتوحة بلا بوصلة، ما إن يفيق من حرب حتى يبدأ جولة أخرى.
الحرب على غزة زادته أوجاعاً، لم يتوقع أحد أن تكون هذه المساحة الصغيرة «365 كم» على خريطة الشرق الأوسط، مصدراً للصدام الهائل بين الشرق والغرب، أو سبباً رئيسياً لانشقاق غير مسبوق في مجلس الأمن والمنظمات الدولية، أو تصبح قضية خلافية، بين الرأي العام العالمي الذي كسر الكلام المحظور تاريخياً في أروقة وشوارع أوروبا وأمريكا.
هذا الزخم السياسي الذي أحدثته الحرب على غزة، جعل الجغرافيا رهينة حسابات إقليمية ودولية، وفرض على التاريخ إعادة حساباته المستقبلية. غزة هي كرة اللهب التي تطايرت إلى محيطها وتعلقت بعنق الشرق الأوسط الذي كاد يختنق.
جذبت دائرة اللهب جنوب لبنان إلى ساحة المعركة، ولا تزال الساحة اللبنانية قابلة للانفجار إذا تحولت الحرب من الضبط إلى الاندفاع الكبير. هذا الارتطام الهائل وصل صداه إلى واحدة من أخطر المناطق الاستراتيجية، أعني منطقة البحر الأحمر وباب المندب، وخليج عدن وبحر العرب، فهذه المنطقة شديدة الحساسية باتت كالسيف الباتر على رقبة حركة التجارة العالمية وحرية المرور للأفراد والبضائع حول العالم.
الصدى الآخر، هو انخراط العراق في ألسنة اللهب عبر الاحتكاك العنيف بالقوات الأمريكية والغربية العاملة على أراضي العراق، ضمن تحالف دولي للحرب على تنظيم داعش الإرهابي، مما جعل الدولة العراقية تفكر في إنهاء هذا الوجود، معتبرة إياه أنه لم يعد مهماً في مكافحة الإرهاب، بل إنه بات يشكل عبئاً على الاستقرار الاجتماعي العراقي، وإدخاله في معارك استراتيجية بين قوى دولية تتنازع المصالح.
لم يختلف الحديث كثيراً عما يجري في سوريا، فبلاد الشام تتعرض للقصف الإسرائيلي الدائم بذريعة ملاحقة عناصر تراها إسرائيل معادية، في كسر واضح للقانون الدولي، وهو اعتداء سافر على سيادة دولة عضو في الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، صحيح أن سوريا تعاني هذا الخلل منذ أحداث ما يسمى بـ«الربيع العربي»، لكن الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة شكلت صدى لصوت العدوان في غزة.
إذا كانت هذه الأصداء المربكة صنعتها غزة، تلك المساحة الصغيرة، في زمن قصير، فربما تسكت المدافع، وحتماً ستسكت، لكن يبقى السؤال الضاغط والملح بقوة على العقل العربي العام وهو: لماذا تظل منطقة الشرق الأوسط مسرحاً ممتداً زمنياً وجغرافياً للحروب، وهل آن الأوان لأن يحظى الشرق الأوسط باستراحة محارب؟.
ظني أن الشرق الأوسط في حاجة ماسة لتبريد الصراعات المزمنة، والموروثة منذ عقود طويلة، وفي مقدمتها الصراع العربي - الإسرائيلي، فهو نقطة البداية وخط النهاية، ومن دون وضع نهاية لهذا الصراع، سيظل العالم والشرق الأوسط - تحديداً رهينة المتغيرات والمستجدات التي قد تقع عرضاً أو تخطيطاً.
فلا شك أن شعوب الشرق الأوسط أصابتها متلازمة الحروب الدائرية، فكلما انتهت حرب نشبت أخرى، ولم يمر عقد كامل دون حرب بينية أو غزو أو حرب أهلية أو فوضى مرتبة، فلو نظرنا إلى الخريطة سنجد معظم الدول العربية خاضت حربين أو أكثر طوال القرن، وبعضها الآخر خاض عدة حروب متتالية.
ربما تباينت أسباب كل هذه الحروب، لكن الناظم بينها هو وجود الصراع العربي - الإسرائيلي المستمر، فهو الصراع الذي يستقطب قوى دولية وإقليمية لتأكيد مصالحها على مساحة الشرق الأوسط، وهذا الصراع يمنع الاستقرار والتنمية الاقتصادية والانخراط في مسار التحديث العالمي، بل إنه يشكل حاجزاً أمام التقدم.
لذا، فقد بات من الضروري وجود رؤية استراتيجية شاملة لإنقاذ الشرق الأوسط، فهو جدير باستراحة محارب طويلة، على الأقل لعقدين أو ثلاثة، لأنه يريد أن يتنفس هواء نقياً بعيداً عن ماراثون حروب طالت نحو قرن من الزمان.
("البيان") الإماراتية