تقدير موقف

.. لكنه "يتجمل"!

قبل يومين، وفي السابع من مارس/آذار، بعد خمسة أشهر كاملة من زلزال السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وفي طريقه إلى الكونجرس ليلقي خطاب الرئيس السنوي "حالة الاتحاد"، وهو الأهم في نهاية دورته الرئاسية تلك، وعلى أبواب انتخابات صعبة، مر جو بايدن بتظاهرات أمريكية لشباب يرفعون أعلام فلسطين ويطالبون بإيقاف المذبحة، ويرتدون قمصانًا كُـتبَ عليها "الإبادة الجماعية = إرث بايدن".

.. لكنه

قبل ذلك بأيام، وفي سابقة غير مسبوقة أمريكيًا للاحتجاج المقدّس ذهب طيار أمريكي ما زال في الخدمة، ويرتدي بزته العسكرية إلى أبواب سفارة إسرائيل في واشنطن ليشعل في جسده النار، احتجاجًا، مأساويًا، وصارخًا، وواضحًا على ما ترتكبه إسرائيل من "إبادة جماعية" - هكذا قال، وسمعه الجميع -، مستدعيًا إلى الذاكرة كل النبلاء "الاستشهاديين" عبر التاريخ الذين دفعوا حياتهم في محاولة مقدّسة لإيقاف الظلم.

قبل ذلك بأيام أيضًا كتب توماس فريدمان، الذي لا شك في ولائه لإسرائيل، وفي "نيويورك تايمز"، التي لا شك في أنها غامرت بمهنيتها حين نشرت قصة ملفقة عن انتهاكات جنسية اتهمت بها مقاتلي "حماس"، ينبّه "إذا لم يكن بايدن حذرًا، فإنّ مكانة أمريكا العالمية سوف تتراجع تمامًا مع مكانة إسرائيل".

في مثل تلك الأجواء الملبدة بالصور القاتمة للدمار في غزّة، يشاهده، ويشهد عليه العالم أجمع، وفي قاعة رفع فيها بعض المشرعين "الأمريكيين" لافتات تطالب بإيقاف المذبحة، وقف الرئيس الثمانيني ليقول - أكرر: "يقول" - ما سمعناه، وأخذ مكانه كالعادة إلى مانشتات الصحف، ونشرات الأخبار.

لسنا بصدد مرفأ لإنقاذ الفلسطينيين إنما لإنقاذ مركب السمعة الأمريكية التي أوشكت على الغرق عالميًا

ثم كان أن احتفى لدينا "بما قاله" الرئيس، أولئك الذين كانوا يحتفون على مدى خمسة أشهر من المذبحة، - وثلاثة استخدامات للفيتو حمايةً لاستمرارها - بالأنباء، والتسريبات، والتصريحات اليومية عن ما يسمونه "خلافًا" بين الإدارتين في واشنطن وتل أبيب، وهو خلاف لم يكن أبدًا حقيقيًا، أو ملموسًا في القرارات والإجراءات والمواقف التي اتخذتها واشنطن مساندةً ودعمًا لإسرائيل عسكريًا ودبلوماسيًا، بل وحتى قضائيًا في مرافعة متهافتة للممثل الأمريكي أمام محكمة العدل الدولية.

في خطابه "الإنساني جدًا" لم يتخل بايدن عن تبني الرواية الإسرائيلية بالكامل بما فيها ما لم يثبت أبدًا عن "الذبح، والعنف الجنسي"، بل ولم يتردد في إجهاض حديثه "الإنساني" عن آلاف الضحايا من المدنيين الفلسطينيين "من النساء والأطفال" بالإشارة إلى التبرير الإسرائيلي المزمن "حماس تختبئ وسط المدنيين"، ثم لم ينسَ التأكيد "الانتخابي" على أنه الرئيس الأكثر دعمًا لإسرائيل في التاريخ.

وفي خطابه "الإنساني جدًا"، قال بايدن إنه أصدر "أوامره"، لا بإيقاف الدعم العسكري "المفتوح" لإسرائيل إلى أن توقف الحرب، أو على الأقل تسمح بإيصال المساعدات إلى الجوعى والمرضى؛ الذين وصفهم بالمدنيين، ولا باستصدار قرار من مجلس الأمن يجبرها على ذلك، بل ببناء رصيف ميناء عائم على شاطئ غزة لاستقبال المساعدات "الإنسانية" بحرًا. وبغض النظر عن ما قد تخبئه خطة الرصيف هذه من نوايا قد تشير إليها طبيعة الواقفين وراءه، إلا أنه لوجستيًا، وحسب ما تقوله المصادر الأمريكية ذاتها قد يستغرق إنشاؤه وتشغيله ثمانية أسابيع، ناهيك عن الترتيبات اللوجستية اللاحقة للتفريغ والتوزيع، والسؤال الذي لا إجابة له عن من سيتولى على الأرض مثل تلك المسؤولية!

يبدو أنّ الأمر، واقعيًا لا يعدو أن يكون بروباغندا يحتاجها الرئيس، وفريقه الانتخابي، وأحلام صديقه الشرق أوسطية، وأننا بالأحرى لسنا بصدد مرفأ لإنقاذ الفلسطينيين، أو من سيتبقى منهم على قيد الحياة بعد الأسابيع الثمانية، وإنما لإنقاذ مركب السمعة الأمريكية التي أوشكت على الغرق عالميًا في بحر الدماء الفلسطينية.

رصيف بايدن العائم ينهي دور ومكانة معبر رفح المصري/الفلسطيني ويتماهى مع خطة إسرائيلية للتهجير "الطوعي"

إسرائيليًا تعود فكرة الرصيف العائم تلك إلى عام 2005 وإلى وزير خارجيتها إسرائيل كاتز، الذي تحدث قبل أسابيع في في اجتماع مغلق في بروكسل عن إنشاء جزيرة صناعية في البحر المتوسط قبالة غزّة، وهو كان قد استلهم الفكرة أصلًا قبل عقدين من الزمان من قطب الغاز الإسرائيلي يتسحاق تشوفا، إلا أنّ الفكرة وقتها لم تجد مكانها على سلّم الأولويات الإسرائيلية، فظلت محفوظة في الأدراج، إلى أن فاجأ بها كاتز زملاءه الأوروبيين في بروكسل.

لن تعترض إسرائيل إذن على بناء الرصيف العائم، الذي يقول المتحدث الرسمي لخارجيتها إنه سيكون قطعًا تحت سيطرة إسرائيلية كاملة، فهو من ناحية ينهي دور ومكانة معبر رفح المصري/الفلسطيني، كما أنه يتماهى مع ما بات معروفًا من خطة إسرائيلية لمستقبل غزّة بفتح الباب للتهجير "الطوعي" بعد أن جعلت إسرائيل من القطاع مكانًا غير صالح للحياة، فضلًا عن أنه في تعريفه النهائي، بغض النظر عن مساحيق التجميل "الإنسانية" ليس أكثر من تكريس للاحتلال والحصار. وإلا فبماذا تسمون "سيطرة" دولة ما على المنافذ البحرية أو الجوية لإقليم ما؟!.

في خطابه "الإنساني جدًا"، لم تكن مصادفة أن لم ترد على لسان الرئيس كلمة الاحتلال، أو الأراضي المحتلة، رغم أنّ هذا هو التوصيف القانوني حسب المقررات الدولية. ولكنه، على الناحية الأخرى، وطمعًا في تطبيع من لم يُطبّع بعد مع الدولة الاستيطانية التوسعية - هم لا يخفون طبيعتهم بالمناسبة - يلوح لنا بايدن بالكلمة السحرية "حلّ الدولتين"!! هل يعرف السيد الرئيس أنّ الحكومة الإسرائيلية اعتمدت الأسبوع الفائت فقط قرارًا ببناء مزيد من المستوطنات للإجهاز على أي أمل "واقعي" في حلّ الدولتين؟ أو هل استمع إلى صديقه القديم، يقول على الملأ للمرة الألف، إنه لن يسمح بقيام دولة فلسطينية؟ أو هل هناك من أخبره أنّ مجلس الوزراء الإسرائيلي أقرّ قبل أسبوعين فقط وبالإجماع وثيقة "ترفض الاعتراف أحادي الجانب بدولة فلسطينية.. وترفض الإملاءات الدولية فيما يتعلق بتسوية دائمة مع الفلسطينيين"، وأنّ الكنيست صدّق على هذا القرار في اليوم التالي.

بالمناسبة، عند إشارته اليتيمة في خطابه لحلّ الدولتين، لم يفته في العبارة ذاتها أن يؤكد أنه يقول ذلك باعتباره "داعمًا لإسرائيل طوال حياته"، وأنه الرئيس الأمريكي الوحيد الذي زارها وقت الحرب.

كما لم يفته في العبارة ذاتها الإشارة إلى النوايا الحقيقة وراء "الشعار السحري": ضمان التطبيع مع كل جيرانها بما فيهم المملكة العربية السعودية. فاته فقط أن يقول لنا أيهما سيسبق الآخر: الدولة والسلام العادل أولًا كما تقضي مبادرة الملك عبد الله 2002، والتي رفضتها إسرائيل دائمًا، أم التطبيع أولًا، ثم الدخول في مسار تفاوضي لا يبارح مكانه، كما جرى مع "أوسلو". للتذكرة فقط، اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية في أوسلو 1993 بدولة إسرائيل القائمة على 78٪ من أراضي فلسطين التاريخية، على أن تستغرق مفاوضات "الحل النهائى" خمس سنوات من المفترض أن تنتهي بقيام دولة فلسطينية مستقلة على ما تبقى من الأرض. ثلاثون عامًا مضت، ولا دولة هناك. بل أكثر من ذلك، إسرائيل التي تقرر أن لا اعتراف أحادي الجانب بدولة فلسطينية لا يتردد رئيس حكومتها في التصريح بأنه "لا يعترف" بالسلطة الفلسطينية؛ التي أتت بها أوسلو، وأنه لن يسمح لها بالذهاب إلى غزّة.

على الهامش، وفقط لكي ندرك ما أحدثه السابع من أكتوبر من تغيير، علينا أن نلحظ أنّ شعار "حل الدولتين" هذا، بغض النظر عن واقعيته، لم يرد أبدًا لا تصريحًا أو تلميحًا في كل خطابات "حالة الاتحاد" السنوية السابقة للرئيس التي أوشكت ولايته على الانتهاء.

وعلى الهامش أيضًا، وبلغة الأرقام الكاشفة، أنّ في خطابه "الإنساني جدًا" قبل يومين، وردت كلمة إسرائيل أو إسرائيلي أحد عشر مرّة، في حين ذكر الفلسطينيين لا فلسطين أربع مرات فقط.

عندما يموت الأطفال من الجوع يصبح أي كلام لا يقترن بإيقاف كامل للحرب "مجرد كلام"

يريد منا بايدن أن نصدّقه حين نسمعه يتألم لفقدان ثلاثين ألفًا من الفلسطينيين "الأبرياء" حياتهم. علينا إذن أن نغض الطرف عن حقيقة ما كشفته الأدلة الاستخباراتية مفتوحة المصدر OSINT من أنّ إدارته، ومن خلال جسر جوي غير مسبوق سلّمت إسرائيل سرًا خلال أشهر المذبحة الخمسة، وعبر أكثر من مائة عملية شحن، عشرات الآلاف من قذائف 155 مم وعشرات الآلاف من أنظمة توجيه القنابل، وصواريخ Hellfire وطائرات بدون طيار، إلى آخر قائمة طويلة كانت الإدارة تلتف فيها على القواعد التي تتطلب موافقة الكونجرس بتقسيم الشحنات/المبيعات إلى كميات لا تصل قيمة كل منها على حده إلى المبلغ الذي يتطلب إخطار الكونجرس. ألا يعرف السيد بايدن أنّ تلك الأسلحة المرسلة سرًا هي التي استُخدمت في قتل هؤلاء الأبرياء الذين يتحدث عنهم.

وبعد،،

فلن أختلف مع هؤلاء المتفائلين الذين يقولون إنّ الرجل قال ما لم يقله من قبل، إلا أنني من الذين يحسبون أنه عندما يموت الأطفال من الجوع، وتصبح الأرض التي يقطنها مليونان من البشر غير صالحة للحياة، يصبح أي كلام لا يقترن بإيقاف كامل للحرب "مجرد كلام"، حتى لو ورد في الخطاب الأهم لرئيس الدولة الأهم في هذا العالم.

كما أنني أحسب أنّ فهمًا صحيحًا لسيكولوجية الرئيس، وقراءة واعية لما يدور في عقله، قد تجنبنا وَهْم "التفكير بالتمني" فضلًا عن القراءة الخاطئة لما "يقوله" في هذه المناسبة أو تلك.

أرجوكم تمهلوا. وقبل أن تصفقوا أو تصدقوا ما قد يبدو من "إنسانية" في خطاب السيد الرئيس، تذكروا أنّ السؤال الحقيقي هنا هو:

هل يستطيع السيد بايدن إيقاف المجزرة الإسرائيلية التي دخلت، عشية خطابه، شهرها السادس؟

الإجابة: نعم.

هل فعلها، أو سيفعلها؟

الإجابة: لا.

هو فقط "يتجمل".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن