مع تعثر الوصول إلى وقف لإطلاق النار أو هدنة مؤقتة في قطاع غزة ومع تواصل العمليات العسكرية الإسرائيلية وتصريحات حكومة بنيامين نتنياهو الخاصة بقرب التحرك البري باتجاه رفح وفي ظل أخطار المجاعة والأوبئة والآثار البيئية المدمرة التي تحاصر أكثر من مليونين من الفلسطينيين سقط منهم أكثر من ٣٠ ألف قتيل منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، تعيد الدبلوماسيات الدولية والإقليمية ترتيب أوراقها وتبحث عن مداخل جديدة لوقف خرائط الدماء والدمار ولدفع الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني إلى قبول ترتيبات قد تستعيد شيئًا من الأمن والاستقرار.
وكما تختلف الأوراق الدبلوماسية لواشنطن والعواصم الأوروبية فيما بينها، وتختلف عن الأوراق الروسية والصينية وعن أوراق القوى العربية والشرق أوسطية المؤثرة في مجريات الأوضاع في غزة، تتفاوت أيضًا المصالح والأهداف وتترجم إلى مواقف وسياسات لا تغيب تناقضاتها. وأتناول اليوم بالتحليل السياسات الأمريكية التي تصنعها السلطة التنفيذية متمثلة في الإدارة الرئاسية والوزارات والوكالات المعنية بالقضايا الخارجية وأمور الأمن القومي (وزارة الخارجية ووزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية)، ويشارك فيها الكونجرس وجماعات المصالح وتدخل في حساباتها الكثيرة مجريات عام الانتخابات ٢٠٢٤، وتوجهات قطاعات من الناخبات والناخبين كاليهود والعرب الأمريكيين وبعض المجموعات الأمريكية من أصول إفريقية، الذين يهتمون بشؤون الشرق الأوسط ولأصواتهم في صناديق الاقتراع دور مؤثر في حسم سباقي البيت الأبيض والكونجرس إن لصالح مرشحي الحزب الديمقراطي أو منافسيهم من الحزب الجمهوري.
لا ينبغي أبدًا أن تختزل صناعة السياسات الأمريكية تجاه إسرائيل وفلسطين وعموم الشرق الأوسط في تفضيلات الرئيس وفريق مستشاريه في مجلس الأمن القومي، فبيروقراطيات وزارتي الخارجية والدفاع ووكالة الاستخبارات تضطلع بأدوار بالغة الأهمية ومواقف الكتل البرلمانية داخل مجلسي النواب والشيوخ قد تقترب من أو تبتعد عن التفضيلات الرئاسية. وفي عام انتخابات كالعام الحالي، يتعين إضافة توجهات بعض دوائر اليهود الأمريكيين المتعاطفين مع حرب إسرائيل في غزة والعرب الأمريكيين المعارضين لها وبعض شباب الأمريكيين من أصول إفريقية الذين يرون فلسطين كقضية تحرر عالمي تستحق التأييد، يتعين إضافة تلك التوجهات وانعكاساتها المحتملة على السلوك التصويتي في صناديق الاقتراع الرئاسية والبرلمانية ٢٠٢٤ إلى الحسابات التقليدية لأدوار ونفوذ جماعات المصالح والضغط.
في هذا السياق، تعمل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن اليوم على تعديل سياسات التأييد الشامل للممارسات الإسرائيلية والامتناع عن الضغط على تل أبيب التي اتبعتها واشنطن منذ هجمات حماس في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ باتجاه تحديد بعض الخطوط الحمراء التي يريد البيت الأبيض من حكومة نتنياهو الالتزام بها وعدم تجاوزها.
يتعلق الخط الأحمر الأهم باحتمالية الاجتياح البري لمدينة رفح الذي تصر عليه الحكومة الإسرائيلية (وليس فقط نتنياهو) وترفض الإدارة الأمريكية حدوثه خلال الأسابيع المقبلة. لا يتعلق خط بايدن الأحمر هنا بترجمة رفض البيت الأبيض للاجتياح البري لرفح ــ التي صارت ملاذ أكثر من مليون ونصف المليون من أطفال ونساء ورجال الشعب الفلسطيني ــ إلى ضغط شامل على الحكومة الإسرائيلية لإثنائها عنه، بل يعني تهديد واشنطن لتل أبيب إما بفرض شروط على المساعدات العسكرية أو بتعليقها الجزئي وربط احتمالية تنفيذ أي من الخطوتين بتفاصيل ما قبل اجتياح رفح وتوقيته وحدود حماية القوات الإسرائيلية لأرواح الناس وللمنشآت العامة والخاصة ومدى جديتها في تجنيب الفلسطينيين مقتل «٣٠ ألفًا إضافيين» من السكان المدنيين في رفح ومحيطها، كما أشار بايدن منذ أيام قليلة في مقابلة تليفزيونية (مع قناة MSNBC).
تسعى الإدارة الأمريكية، بالتنسيق مع جهود الوساطة المصرية والقطرية، إلى تجنب اجتياح رفح من خلال إقناع الحكومة الإسرائيلية وحركة حماس بقبول وقف مؤقت لإطلاق النار يمتد لعدة أسابيع يتم خلالها تجاوز شهر رمضان وإنجاز صفقة تبادل جديدة لبعض (أو كل) الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في غزة ولبعض الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، ويتم خلالها أيضًا تهيئة «أماكن آمنة» في شمال ووسط القطاع ينقل إليها السكان المدنيون من رفح.
غير أن إدارة بايدن، وعلى عكس موقف الوسيط المصري والوسيط القطري وكل المواقف العربية وعديد المواقف الدولية التي ترفض اجتياح رفح اليوم وغدًا، ولا تريد تجدد العمليات العسكرية، تعمل فقط على تأخير الاجتياح والحصول على ضمانات من حكومة نتنياهو بحماية السكان المدنيين عندما يحدث وتلوح في هذا الصدد، مدعومة بفريق من النواب والشيوخ الديمقراطيين في الكونجرس ومستجيبة لضغوط العرب الأمريكيين، الذين تهدد مجموعاتهم بالتصويت العقابي ضد بايدن والحزب الديمقراطي في انتخابات ٢٠٢٤، بإمكانية توظيف المساعدات العسكرية المقدمة لإسرائيل كأداة للضغط إن بإحاطة تقديم المساعدات بشروط سياسية تضمن استجابة تل أبيب لمطالب واشنطن أو بتعليق بعضها إلى حين استجابة نتنياهو وحكومته.
بعبارة بديلة، لا ترفض إدارة بايدن اجتياح رفح على نحو مطلق. بل هي من جهة ترفض حدوثه خلال شهر رمضان خوفًا من انفجار محتمل للعنف في الضفة الغربية والقدس الشرقية وتحسبًا لانفجار غضب الشارع العربي والإسلامي في أيام الصيام، وتسعى من جهة أخرى لتأخيره إلى حين تقديم إسرائيل ضمانات كافية تتعلق بحماية المدنيات والمدنيين لكيلا تسقط آلاف إضافية من القتلى والجرحى ستُعد الولايات المتحدة، بسلاحها ومالها وتعاونها الاستخباراتي مع إسرائيل وبمعارضتها المستمرة لاستصدار قرار ملزم من مجلس الأمن الأممي يقضى بإنهاء الحرب، متواطئة في قتلهم وإصابتهم.
هذا هو الخط الأحمر الأهم لإدارة بايدن فيما خص غزة، رفض حدوث الاجتياح البري لرفح اليوم وضرورة تأجيله دون أن يعني ذلك رفضًا مطلقًا لحدوثه أو معارضة شاملة للحرب في غزة. لا يريد بايدن أن يتهم من قبل الناخبات والناخبين الأمريكيين المتعاطفين مع إسرائيل بكونه من منعها من «إتمام المهمة» التي تصورها حكومة نتنياهو على أنها القضاء على الوجود العسكري لحماس وتدمير ما تبقى من قواتها وقدراتها في جنوب القطاع، في رفح ومحيطها.
وتقف بيروقراطية وزارات الخارجية والدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية في ذات الخانة، وتتحرك من ثم ومعها فرق مجلس الأمن القومي والمستشارين «لتحجيم» الأضرار الناجمة عن الاستمرار المتوقع والمقبول أمريكيًا للحرب بالضغط لتأجيل اجتياح رفح والمطالبة بالضمانات سالفة الذكر التي تريد من خلالها إدارة بايدن تحقيق شيء من الاستجابة الجزئية لمطالب النواب والشيوخ الديمقراطيين المعارضين لتواصل العمليات العسكرية وشيء من الاستمالة الجزئية لقطاعات ناخبات وناخبي الحزب الديمقراطي من العرب الأمريكيين ومن الأمريكيين من أصول أفريقية الرافضين للحرب. تبحث الإدارة أيضًا عن الاستجابة الجزئية لمطالب الحلفاء بين الدول العربية والإسلامية وفي عموم الجنوب العالمي، بل بعض المطالب الأوروبية، بالضغط على إسرائيل.
وإذا كانت واشنطن لا ترغب في الضغط على تل أبيب لإنهاء الحرب، فإن الاستجابة الجزئية المتمثلة في تأجيل اجتياح رفح والإنجاز العملي لهدنة مؤقتة (دون الإعلان عنها) وإدخال المزيد من المساعدات الإنسانية للقطاع قد تحجم بعض الأضرار التي تتحملها القوة العظمى من جراء سياسات وممارسات الحليف الإسرائيلي.
("الشروق") المصرية