صحافة

كلمات بايدن وأفعاله.. كل هذا السخف

عاصم عبد الخالق

المشاركة
كلمات بايدن وأفعاله.. كل هذا السخف

بايدن عندما يتحدث ليس هو بايدن عندما تحين لحظة اتخاذ القرار. أفعاله لا تعبر عن كلماته. وكلماته لا تفصح عن موقفه الحقيقي. إذا تكلم الرئيس الأمريكي عن مأساة غزة يوحي لمستمعيه أن وخزات ضميره تؤلمه وأن مشاعره لم تعد تحتمل صور أشلاء الأطفال وجثث الأبرياء الممزقة، لكن ما إن يتوارى عن الكاميرات حتى يوقع الأوامر بمواصلة تزويد إسرائيل بالأسلحة التي تقتل بها نفس الأبرياء الذين يتألم من أجلهم، ولذلك قرر إنشاء ميناء في غزة لإرسال المساعدات لمن يبقى منهم على قيد الحياة. بايدن يتعاطف مع القتلى، هكذا تقول كلماته لكنه يرفض إدانة القاتل. يعلن أنه محبط من صديقه نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل ويتحدث معه هاتفيا 20 مرة منذ بداية حملة الإبادة على غزة.

في كل مناسبة يدعو لتسهيل وصول المساعدات للفلسطينيين ثم يوقف تمويل منظمة الأمم المتحدة لغوثهم (أونروا). يطالب بهدنة ويستخدم الفيتو لمنع أي قرار دولي بفرضها. يقول إنه لا يجب سقوط 30 ألف قتيل فلسطيني آخرين، ثم يزود إسرائيل بأكثر من 25 ألف طن من الذخيرة والمعدات حتى نهاية فبراير الماضي لتقتل المزيد منهم.

إنه السخف المأساوي على حد تعبير مجلة «نيشن» الأمريكية التي نشرت مقالا عن أقواله غير المنسجمة مع أفعاله، قالت في مقدمته: «منذ بدء حملة الموت الإسرائيلية يمارس بايدن فن التناقض بنسج قصة بعد أخرى عن إحباطه من نتنياهو بينما يواصل تزويده بالقذائف ليطلقها على الغزاويين. بلغ السخف مستويات جديدة في الأيام الأخيرة التي شهدت أكثر محاولات بايدن البائسة للإيحاء بحدوث تغيير جذري في توجهه، في حين تكشفت أكثر الأدلة وضوحا على عمق الدعم الذي تقدمه إدارته لاستمرار الحرب».

وسائل إعلام أخرى لاحظت وسجلت دهشتها لهذا التناقض الفج في مواقف الرئيس الأمريكي. وعلى سبيل المثال نشرت «نيويورك تايمز» مقالا للكاتب والدبلوماسي «ارون ديفيد ميلر» المفاوض السابق حول الشرق الأوسط بوزارة الخارجية والباحث في مركز كارنجي، قال فيه «إن بايدن لا يترجم تصريحاته إلى مواقف وأفعال. وبالتالي لا توجد نتائج على الأرض لوقف الحرب».

لكن ماذا عن قراره بإنشاء ميناء في غزة؟ هنا أيضا تتجلى مظاهر التناقض فإنشاء هذا الرصيف البحري يحتاج إلى شهرين وفقا لتقدير وزارة الدفاع الأمريكية، لكن المجاعة تفتك بالفعل بالسكان المحاصرين ولن تنتظر شهرين. كما أن أمريكا لم تحصل على ضمانات إسرائيلية بعدم إطلاق النار على الجوعى كما تفعل حاليا، وليس هناك اتفاق حول آلية توزيع المساعدات ومن سيقوم بذلك في ظل مقاطعة إسرائيل لوكالة أونروا.

أما انتقاداته المباشرة والمبطنة لنتنياهو وإحباطاته من عجرفته وتطرفه فهي لا تعني بأي حال حدوث قطيعة مع إسرائيل. والخلاف بينهما لم ولن يخل بالتزام أمريكا الصارم بدعمها، وهو ما أكده تقريران نشرا قبل أسبوع في صحيفتي «وول ستريت جورنال» و«واشنطن بوست» أفادا بأنها زودت إسرائيل بأكثر من مائة شحنة عسكرية منذ بداية الحرب وحتى فبراير الماضي ولم يتم إخطار الكونجرس سوى بشحنتين فقط. ومن المرجح زيادتها على ضوء موافقة مجلس الشيوخ على دعم عسكري إضافي لإسرائيل بقيمة 14 مليار دولار.

يجزم جيرمي كونينديك المسؤول السابق في إدارة بايدن ـ الذي يعمل حاليا في مجال غوث اللاجئين ـ بأنه لولا هذا الحجم الضخم من المساعدات العسكرية في هذه الفترة الزمنية القصيرة ما كان للحرب الإسرائيلية أن تتواصل على هذا النحو. لا يعني ذلك سوى شيء واحد هو أن أمريكا تقتل الفلسطينيين بأيد إسرائيلية، ثم تبدى تعاطفها معهم. وبتعبير «نيشن» لا يتوقف بايدن عن العويل علنا منتحبا على الضحايا ومعبرا عن إحباطه من نتنياهو ومتعهدا بإنشاء ميناء المساعدات لإطعام من يبقى من السكان على قيد الحياة بعد شهرين. وبالتوازي مع ذلك يتخذ كل ما يلزم لضمان قدرة إسرائيل على مواصلة الحرب أي قتل المزيد من المدنيين الذين تعهد بإطعامهم.

يلخص الصحفي الأمريكي جاك ميركينسوني الموقف بقوله «إن فاجعة غزة ما كانت لتحدث لولا القذائف الأمريكية، وهو مستوى جديد من الانحطاط تهبط إليه السياسة الأمريكية». يضيف أن بايدن أشبه برجل أشعل حريقا متعمدا ثم سارع بالانضمام إلى رجال الإطفاء، وبعدها ألقى بيانا أدان فيه الجريمة وتعهد بمساعدة الناجين. يتساءل أخيرا «هل هناك خبل أكثر من هذا»؟

لكن التساؤل الأهم هو ما الذي يدفع بايدن إلى هذا التناقض الفج؟. من الواضح أنه يعيش مأزقا عصيبا وربما لا يجد سوى الكلمات يخفف بها من وطأة سياسته غير الأخلاقية تجاه الحرب. ففي عام الانتخابات لا يستطيع أن يغضب إسرائيل، فلن يهدي خصومه الجمهوريين سلاحا يهاجمونه به. لكنه فى الوقت ذاته يثير غضب الجناح الليبرالي بالحزب الديمقراطي الذي ينتقد موقفه بشدة. لذا يسعى إلى هدنة توقف المذابح الإسرائيلية مؤقتا حتى لا يخسر أصوات مؤيديه.

هناك سبب آخر لدعمه إسرائيل غير الأصوات وربما أهم منها يشرحه ميلر بقوله إن بايدن بتركيبته النفسية وتكوينه الفكري وتاريخه السياسي متوحد تماما مع إسرائيل. وهو يدعمها ليس فقط لحصد أصوات مؤيديها لكن لأنه يؤمن بها ويجري حبها في دمه. قصة العشق هذه بدأت منذ نعومة أظفاره وقد زارها للمرة الأولى عندما كان في الثلاثين من العمر بعد انتخابه فى مجلس الشيوخ. وتاريخه السياسي مليء بصفحات عن معارك من أجلها ودفاعا عنها. ولا يمل من تكرار القول إنه صهيوني. وكان صادقا عندما قال لو لم توجد إسرائيل لاخترعناها. وبتعبير ميلر لو حللنا الحمض النووي السياسي لبايدن لاكتشفنا أنه إسرائيلي الهوى.

غير أن المشكلة، وكما يحددها الخبير الأمريكي، ليست في حالة العشق التي تستولي على مشاعره ولكن في أن الخط الفاصل بين ما هو جيد لإسرائيل وما هو في صالح أمريكا يبدو ضبابيا في عين بايدن وغيره من السياسيين الأمريكيين، فهم لا يرونه غالبا أو لا يريدون رؤيته. «فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فى الصدور».

("الأهرام") المصرية

يتم التصفح الآن