في العدوان الأخير على غزّة، أجزلت أمريكا العطاء لإسرائيل، مالًا وسلاحًا حتى تحقق هدفها بـ"القضاء على حماس، وضمان ألا يتكرر ما جرى في 7 أكتوبر/تشرين الأول"، وقدّمت لها أيضًا غطاءً سياسيًا لمواصلة الإبادة الجماعية غير المسبوقة ضد المدنيين الفلسطينيين رغم المعارضة الدولية المتصاعدة.
وحينما جاء وقت النصحية، بعدما تحوّلت الحرب إلى عبء على واشنطن، طالبت الإدارة الأمريكية الحكومة الإسرائيلية بالقبول بوقف مؤقت لإطلاق النار لإدخال المساعدات وإطلاق سراح الرهائن المحتجزين في غزّة، فسدّت الحكومة الإسرائيلية آذانها ولم تصغِ للنصيحة، وأفسد رئيسها كل محاولة قد تؤدي إلى وقف الحرب، ولم لا فالرجل يعلم تمامًا أنّ واشنطن لم تصل بعد إلى مرحلة إصدار قرار بـ"وقف المال والسلاح والدعم السياسي"، لذا سيظل نتنياهو يناور ولن يوقف العدوان لأنه يدرك تمامًا أنّ مستقبله السياسي مرهون باستمرار الحرب.
في مرات قليلة تحمي أمريكا إسرائيل من شطحات قادتها تكبح جماحهم حتى لا يعرّضوا أمن دولتهم للخطر
على جانب آخر؛ وكما تذهب العديد من التحليلات، لا يريد الرئيس الأمريكي جو بايدن الدخول في صدام مفتوح مع أصدقائه الصهاينة سواء في إسرائيل أو الولايات المتحدة، وإنما يحاول "شراء الوقت لإسرائيل لمواصلة حملتها العسكرية حتى تستطيع إخضاع قطاع غزّة وتفكيك قدرات المقاومة الفلسطينية".
في عام 1982 وخلال الغزو الإسرائيلي للبنان، اتصل رونالد ريغان، الرئيس الأمريكي حينها، برئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن، بعد قصف مدفعي مروّع، وبدلًا من أن ينصحه أو يطالبه بوقف إطلاق النار "أمره بذلك".
كتب ريغان في مذكراته: "أخبرته أنّ الأمر يجب أن يتوقف وإلا فإنّ علاقتنا المستقبلية بأكملها معرّضة للخطر.. قلت له أوقف المحرقة"، وبعد 20 دقيقة اتصل بيغن بالرئيس الأمريكي ليخبره أنه أمر بإنهاء القصف ودعاه إلى استمرار صداقتهم.
في مقاله بجريدة "نيويورك تايمز" تمنى الكاتب الصحفي نيكولاس كريستوف أن يظهر بايدن همة مماثلة كالتي أظهرها ريغان، "يمكنه أن يعلّق شحنات الأسلحة الهجومية لإسرائيل.. يمكنه ببساطة أن يلتزم بالقانون الأمريكي الذي ينهي الدعم العسكري لأي دولة تقيّد بشكل مباشر أو غير مباشر، نقل أو تسليم المساعدات الإنسانية الأمريكية".
حتى الآن لم يقرّر الرئيس الأمريكي الذي تفاخر بصهيونيته أن ينحو منحى أكثر صرامة مع الحكومة الإسرائيلية التي هاجمها بحدة خلال الأيام الماضية، لكنه لا يزال يساندها ويدعو رئيسها إلى "ضرورة تبني استراتيجية متماسكة ومستدامة للتخلّص من حماس".
يمثّل أمن الدولة العبرية وبقاؤها عقيدة عند كل الإدارات الأمريكية - ديمقراطية كانت أم جمهورية -، في بعض الأحيان يكون الدعم المالي والعسكري هو الضمانة لتحقيق هذا الهدف، وفي أحيان أخرى يكون الدعم السياسي، وفي مرات قليلة تحمي أمريكا إسرائيل من شطحات قادتها، تكبح جماحهم حتى لا يعرّضوا أمن دولتهم للخطر.
في كتابه "القيادة" تطرّق وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر إلى الدور الذي لعبه في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، بدءًا من دعم الجسر الجوي الذي مدّ إسرائيل بما تحتاجه من دبابات وطائرات، وصولًا إلى وضع وتنفيذ خطة "تطويق النصر" العربي الذي تحقق، إذ نجح في إقناع القاهرة بالقبول بقرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار بصورة كاملة.
ثعلب الدبلوماسية الأمريكية الراحل يرى أنه أنقذ إسرائيل من هزيمة كاملة كادت تتحقق لولاه، وهو محق، فالرجل حرم العرب من جني ثمار الانتصار الأبرز في تاريخ صراعهم مع الدولة العبرية، وفي النهاية مكّنها من تحويل هزيمتها الاستراتيجية إلى نصر استراتيجي بعد أن جر السادات إلى سكة "التفاوض والصلح والاعتراف المنفرد"، حتى أخرج مصر من معادلة الصراع.
تركنا فلسطين وحيدة ليواجه شعبها مصيره
تحمي واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون الدولة الصهيونية التي خلقوها في معاملهم، يدعمونها بالسلاح والسياسة والنصح أو بالأمر بالكف عمّا يعرّض أمنها للخطر إن اقتضت الضرورة، أما نحن فتركنا فلسطين وحيدة بلا سند ولا ظهر ليواجه شعبها مصيره، تخلى عنها العرب بعضهم بالصمت المتخاذل والبعض بالتواطؤ، ولم يكتفوا بذلك بل يلومون مقاومتها على تحالفها مع قوى إقليمية تمدّها بالسلاح والمال ويتهمونها بأنّ ما تقوم به من عمليات ضد المحتل يخدم أجندة تلك القوى.
قامت المقاومة الفلسطينية بما عليها ودفعت ولا تزال مع شعبها الصامد الضريبة كاملة، أما العرب فلم يبادر أي منهم حتى بموقف أو قرار سياسي يلغي فيه اعترافه بدولة الاحتلال أو يُصرّ فيه على إدخال المساعدات من المعبر البري العربي الوحيد "المفتوح" من جانبه، أو بتعطيل الملاحة في البحر الأحمر الذي يكاد أن يكون بحيرة عربية، أو يوقف تدفق البترول إلى الغرب كما اقترح شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب قبل أسابيع.
ترك حكام العرب فلسطين يتيمة في مواجهة الدولة الإرهابية ربيبة الغرب الاستعماري، ولم تهتز لهم قصبة، بل طالبوها بألا تصرخ صونًا لعروشهم.. فهل تسكت مغتصبة.
رحم الله الشاعر العربي مظفر النواب.
(خاص "عروبة 22")