بالرغم من قسوة الأوضاع الكارثية التي ولدتها حرب الإبادة الشاملة، التي تشنها حكومة المتطرفين اليهود - النازيين الجدد - في تل أبيب ضد قطاع غزة، إلا إنها كانت حربا كاشفة صادمة، أسهمت في كشف حقيقة الرئيس الأمريكي بايدن أولا، وكيف خدع العرب والعالم، وأنه أتى إلى الرئاسة الأمريكية عبر خبرة طويلة في رئاسة وعضوية لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب الأمريكي لعقود، ثم كان نائبا للرئيس الأمريكى أوباما ثماني سنوات، ناهيك عن الخبرة الطويلة في فهم العالم وقضاياه، وفي القلب الشرق الأوسط، الذي قال عنه إنه يملك مفاتيح حل قضاياه، فضلا عما يتحلى به من قيم سياسية رفيعة.
والرجل الثاني كان نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي باع الوهم لدول الشرق الأوسط وخاطب العالم العربي أنه يريد صنع السلام والتطبيع مع العواصم العربية، وخلق شرق أوسط جديد، وذهب إلى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، رافعا خريطة جديدة للشرق الأوسط بدون دولة أو معالم جغرافيا فلسطينية، وأخذ يتوسل الطلب والرجاء من الأشقاء فى السعودية بسرعة التطبيع، لأسباب كان يعددها على مدار الساعة، إلى أن خرج الموقف السعودي الحاسم في الوقت المناسب، بأنه لا تطبيع ولا علاقات، قبل إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة على حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشريف، وبالتالي أي أمنيات إسرائيلية، ومن ورائها جهود أمريكية مرفوضة، إلى أن برزت حرب غزة الأخيرة لتكشف الحقارة الإسرائيلية وجه نتنياهو صاحب السجل الأكبر في سفك الدماء في الذاكرة الحديثة.
بكل تأكيد حرب غزة ومستوى الجرائم والممارسات العنصرية، أسهمت بكثير من الحقائق العملية والمواقف المعلنة، في تعرية موقف الرجلين بايدن ونتنياهو قبل مواقف بلديهما، باعتبار مواقف واشنطن وتل أبيب من الحقوق العربية والفلسطينية وقضية الصراع معلومة ومفضوحة على مدى ٧٥ عاما منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي، وبالتالي كانت أولى الخسائر لبايدن ونتنياهو هي حالة فقدان المصداقية والثقة بهما إلى الأبد، فالأول فاجأته أزمة غزة، وجعلت صهيونيته تطغى على إدارته للأزمة، وليس وفق مقتضيات منصبه كرئيس للولايات المتحدة، حيث الحوكمة والرشادة السياسية، وحنكة وخبرة السنين، وكيف سارع بزيارة تل أبيب ليحدث مجلس الحرب والقتل هناك عن صهيونيته، فضلا عن فتح خزائن السلاح والمال الأمريكي لإسرائيل دون حدود، حتى إن المعطيات التي يسجلها الإعلام الأمريكي، تتحدث عن ١٠٠ شحنة سلاح أمريكية لتل أبيب، عبر ٣٠٠ رحلة طيران عسكرية خلال خمسة أشهر، وأكثر من عشرين رحلة لسفن أمريكية تنقل السلاح والعتاد العسكري لموانى إسرائيل.
مع الأخذ في الاعتبار حجم ونوعية الضغوط الأمريكية التي مورست على العالم أجمع، بما فيه الغرب والأوروبيون أصدقاء أمريكا، لمنع تمرير أي قرار أو خطوة، باتجاه إيقاف الإبادة الإسرائيلية في غزة طيلة ستة أشهر من التطهير العنصري في أحلك وأبشع صوره، وحتى مشاريع القرارات العربية والروسية والصينية والبرازيلية في مجلس الأمن الدولي، سارعت إدارة بايدن لوأدها عبر الفيتو الأمريكي، وتوفير الحاضنة والغطاء السياسي لزعيم النازيين الجدد في تل أبيب ـ نتنياهو ـ ليواصل وحشيته في القتل وسفك الدماء دون رادع، ومن هنا بات بايدن عند العرب، فاقد المصداقية، وربما لا يوجد عربي واحد يراهن عليه في إمكان ممارسة الضغوط المطلوبة لإيقاف المجازر الإسرائيلية الوحشية في غزة.
بل إن هناك فريقا عربيا يعتقد ان كل ما يحدث حتى الآن في القطاع، هو بتخطيط وتدبير شخصي بين نتنياهو وبايدن، وأن حديث الخلافات بين الرجلين والتباعد في موقفهما الذي يسوقانه، هو مجرد تمثيلية، لم تعد تنطلي على أحد، وبالتالي الغالبية لا تعقد آمالا ولا ترجو خيرا من بايدن، وترى فيه ورقة خاسرة، لجأ إلى الخداع والمكر في تعاطيه مع قضايا الشرق الأوسط، عكس ما وعد خلال حملته الانتخابية عام ٢٠٢٠، وبات لدى الغالبية في العالم العربي أمل بأن يرحل بايدن عن البيت الأبيض ويسقط في انتخابات نوفمبر المقبل، ولسان حال الإقليم يقول بأن بايدن خدع الجميع باستثناء إسرائيل، وكل ما يطلبونه ويشددون الرجاء من أجله أن يسقط سقوطا مدويا في الانتخابات القادمة، والرهان هو لو عاد ترامب إلى البيت الأبيض هل يحقق بقوة شخصيته واندفاعاته المتمردة، المعجزة بتحقيق تسوية سلمية كاملة وإقامة دولة فلسطينية هذه المرة.
أما المخادع الأكبر نتنياهو فهو يعلم أن عهده في رئاسة حكومة إسرائيل شارف على النهاية، وأنه راحل لا محالة بمجرد أن تنتهي حرب غزة الوحشية، حيث الجرائم والانتهاكات وقضايا الرشا المالية المؤجلة ستلاحقه من جديد، وأنه لن يستطيع تحقيق سلام أو عقد لقاء في أي عاصمة عربية بعد حرب غزة، وان خداعه بسلام الشرق الأوسط الجديد قد ولى على يديه إلى غير رجعة، وأنه انتهى سياسيا وإلى الأبد، لتنتهى أسطورة الرئيسين اللذين خدعا العرب بعض الوقت، وليس كل الوقت.
("الأهرام") المصرية