حوّلت حكومة الحرب في إسرائيل التهديد باجتياح مدينة رفح في جنوب قطاع غزة إلى أداة سياسية وعسكرية، حيث تفيدها في المفاوضات المتقطعة مع حركة حماس، وتحرف الأنظار عما يجري من اشتباكات في أماكن أخرى، وتقنع المتطرفين أن جيش الاحتلال لن يتوانى عن تحقيق أهدافه كاملة، وتؤكد عزمها على التخلص من قدرات حماس التي تحتفظ بها في هذه المدينة، ويمكن أن تمثل تهديدا جديدا في المستقبل.
يحتل التهديد باجتياج رفح جانبا كبيرا من الجدل حول الحرب، وكشف عن شكل من أشكال الخلاف بين إسرائيل والولايات المتحدة، إذ بدت الأولى مصممة على تنفيذ عملية الاجتياح، بينما تحفظت الثانية وطالبت بإيجاد ضمانات لعدم وقوع المزيد من الضحايا المدنيين، ولوحظ أن كل التحفظات الأمريكية لا تتعلق بتنفيذها أم لا، لكن بتقليل أعداد الضحايا، فإدارة الرئيس جو بايدن لم تعد تتحمل ما يمارس عليها من ضغوط داخلية، والمجتمع الدولي شهد تغيرات كبيرة تجاه الموقف من إسرائيل، وتراجع تدليلها عما كان عليه منذ بداية الحرب في أكتوبر الماضي.
عبّر المقال المشترك الذي كتبه الرئيس عبدالفتاح السيسي والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والملك الأردني عبدالله الثاني، ونشر في عدة صحف عالمية، بينها جريدة الأهرام، عن مخاوف كبيرة من تبعات ما تقوم به إسرائيل، وضرورة وقف الحرب الجارية في غزة وادخال المساعدات، وهي الرؤية التي تكاد تكون سائدة على المسرح العالمي، فصوت إسرائيل المؤيد لاستمرار الحرب لحين تحقيق أهدافها الفضفاضة لم يعد مسموعا لوحده، وعلى العكس بات السلام هو الصوت الأعلى والأكثر تأثيرا.
انطوى المقال المشترك على رؤية واضحة يمكنها أن تقطع الطريق على خطة إسرائيل لاجتياح رفح، إذا وجدت من يتضامنون معها على نطاق واسع، فعملية الاجتياح يمكن أن تكون لها ارتدادات سياسية وعسكرية كبيرة على منطقة لا تنقصها نزاعات وصراعات وحروب، سوف تؤثر على كثير من التوازنات الإقليمية الراهنة.
ومن نتائجها تعرض إسرائيل إلى مزيد من الأضرار، خاصة إذا فتحت عليها جبهات قتالية أخرى بصورة أكبر مما هو حاصل الآن، فحزب الله اللبناني لوح بأنه لم يستخدم قدراته العسكرية الكبيرة بعد، وإيران أصبحت على حافة الهاوية التي يمكن أن تدفعها لدخول الحرب مباشرة أو تزج بكثافة بأذرعها القوية في المنطقة.
يلعب اجتياح رفح عسكريا في أي وقت دورا مهما في مزيد من اشتعال المنطقة، كما يسهم نزع فتيل هذه العملية في الحد من الدخول في خيار عواقبه مجهولة. ويحمل كل طريق مكاسب وخسائر لإسرائيل تجعلها في حيرة ومترددة في المضي قدما في أحدها، فتارة يبدو التصعيد والتهديد بالاجتياح وشيكا، وآخر يبدو بعيدا بسبب التحول الحاصل في الموقف الدولي، بعد أن ارتكبت إسرائيل أخطاء قاتلة في حق منظمات إنسانية تعمل في غزة لم تجعل لمتعاطفين معها مجال الاستمرار في تعاطفهم.
ووجدت في سياسة الأداتين، التهديد والوعيد بتنفيذ عملية الاجتياح، والتجاوب الضمني مع الضغوط السياسية، وسيلة للاستثمار في الوقت إلى حين، والذي يحصل بموجبه بنيامين نتنياهو على فرصة لترتيب أوراقه داخليا وخارجيا، فعدم تنفيذ العملية الفترة الماضية وإرسال وفود أمنية إلى القاهرة والدوحة وباريس وواشنطن، كلها من العلامات التي تشير إلى وجود انزعاج من اجتياح مدينة رفح.
وإذا كانت قوات جيش الاحتلال بعد أكثر من ستة أشهر من اندلاع الحرب لا تزال تخوض معارك ضارية مع المقاومة في مناطق بشمال غزة وتطلق منها صواريخ أيضا على إسرائيل، فإن عملية اجتياح رفح لن تكون نزهة وهي التي قالت إن هناك أربع كتائب مسلحة تتمركز فيها، ما يفسر التردد الذي ساد حول هذه العملية، والتي يمكن أن تكون تكلفتها المادية والمعنوية أشد وطأة مما حدث في مناطق أخرى.
يعني تحول عملية رفح إلى ورقة سياسية وعسكرية أن هناك رغبة في توظيفها لتحقيق أهداف نتنياهو التي بدأت تتآكل مع دخول الحرب شهرها السابع، ويمكن أن تمتد إلى ما هو أكثر زمنيا لو تركت حكومة الحرب الحالية أسيرة لرغبات وطموحات المتطرفين، حيث يعتقدون أن اجتياح رفح هو نهاية المطاف، بينما يمكن أن تصبح بداية لمرحلة أكثر قسوة على جيش الاحتلال، فما قامت بتنفيذه آلة الحرب الإسرائيلية بكل جبروتها الفترة الماضية لم يفلح في الوصول إلى الأهداف المعلنة.
ولن تكون عملية رفح المحتملة قادرة على تحقيق أهدافها بالمستوى الذي يضمن لإسرائيل قبول نتائجها الكارثية، ومع تنامي الغضب في المجتمع الدولي وتحفظات بعض القوى الداعمة لنتنياهو لن يكون بإمكان قواته القيام باجتياح في غياب الروافع السياسية اللازمة له، والتي يتطلب توفيرها جهودا كبيرة، من الصعوبة تحقيقها في ظل تراجع التأييد في الداخل والخارج.
كما أن مفاوضات صفقة الأسرى وملحقاتها اللوجستية متعثرة بسبب لعبة الشد والجذب التي تمارسها حماس وإسرائيل. وجزء كبير منها يرتهن بالتطورات الميدانية، وآخر بالبوصلة الدولية، الأمريكية تحديدا التي لم تعد منحازة بشكل أعمى إلى إسرائيل.
تعلم إسرائيل أن عملية عسكرية في رفح تتمخض عنها خسائر بشرية كبيرة يمكن أن تسبب لها متاعب سياسية، فكل الدول التي وقعت اتفاقيات سلام معها أو تنوى التوقيع مستقبلا لن تستطيع تحمل نتائج أشد ألما في رفح، وأقصى ما يمكن أن تقوم به إسرائيل في هذه الأجواء هو عملية جراحية محدودة تساعدها في إحداث توازن بين مطالبها العسكرية والهواجس السياسية والإنسانية التي أعلنتها قوى إقليمية ودولية مختلفة.
("الأهرام") المصرية