بعد أقل من شهرين على فوزه بالرئاسة التركية لولاية ثالثة من خمس سنوات، كان رجب طيب أردوغان يشد الرحال إلى جهتين أعطاهما الأولوية في عهده الجديد – القديم، ويشكلان مؤشراً على اتجاهات السياسة الخارجية لتركيا في المرحلة المقبلة.
الأولى هي فيلنيوس عاصمة ليتوانيا، حيث كان أردوغان «نجم» قمة زعماء حلف شمال الأطلسي التي انعقدت بين 11 و 13 يوليو/تموز الجاري. وكانت عقدة القمة هي انضمام السويد للحلف في ظل ممانعة تركيا ذلك، ومطالبتها السويد بالتزام تعهداتها بشكل فعلي لمحاربة «الإرهاب» على أراضيها. وبعد أن اجتازت فنلندا قبل أشهر «الامتحان» التركي، وصارت عضواً في الحلف نجحت السويد هذه المرة في الامتحان، وستصبح العضو الثاني والثلاثين في الحلف، ليكتمل الطوق على روسيا، باستثناء جبهة أوكرانيا. وحل العقدة كان في تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن، أن تبيع بلاده طائرات «أف 16فيبر» الحديثة، وتحدّث بعضاً من طرازها الأقدم «أف 16».
وخرج أردوغان أمام الرأي العام بالقول إن إدخال السويد كان بسبب تعهد الدول الأطلسية والأوروبية بدعم تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي.
واعتبرت عودة التفاهم والانسجام بين تركيا وحلف شمال الأطلسي استكمالاً لتصريح أردوغان قبل القمة بدعم أوكرانيا، لتكون عضواً في الحلف وهو ما اعتبرته روسيا عملاً تحريضياً ضدها، خصوصاً أن رغبة أوكرانيا بالعضوية كانت سبباً مباشراً لبدء الحرب الروسية عليها لمنع هذه الخطوة.
الاستدارة التركية نحو الأطلسي كانت عودة إلى الثوابت الغربية، ولم تكن يوماً قد ابتعدت عنها فعلياً، وكان انفتاحها على «الشرق» الروسي والإيراني مجرد حشد لأوراق لمقاومة الضغوط الغربية في أكثر من قضية.
انتهت قمة فيلنيوس وطار أردوغان بعدها أيام 16 و 17 و 18 يوليو /تموز الجاري إلى ثلاث دول خليجية رئيسية هي: السعودية وقطر والإمارات. وكانت الجولة استمراراً لسياسة المصالحة التي بدأها قبل أكثر من سنة ونيف، مع كل من السعودية والإمارات، باعتبار أن العلاقات مع قطر «استراتيجية» وثابتة.
الجولة الخليجية لأردوغان كانت الأوضح في غاياتها، وهي استمرار السعي إلى جذب الاستثمارات، سواء على شكل ودائع نقدية في المصارف التركية، أو استثمارات خليجية في تركيا، أو تركية في الخليج. وقال أردوغان عشية جولته إن الهدف من الجولة هو جمع 25 مليار دولار استثمارات، والعمل على رفع ذلك لاحقاً إلى خمسين مليار دولار.
فبعد انتخاب أردوغان رئيساً لتركيا كان لا بد له من انتهاج سياسات اقتصادية جديدة، نظراً للانهيار الاقتصادي الكبير الذي شهدته تركيا في السنوات الأخيرة وأدى إلى تراجع سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار، وارتفاع جنوني في الأسعار. وما كادت الانتخابات تنتهي حتى عاد سعر صرف الليرة للتفلت وخلال أسبوع ارتفع من 20 إلى 26 ليرة مقابل الدولار.
ومن أجل محاولة إنقاذ الاقتصاد، كان توجه أردوغان إلى جهتين: غربية تتمثل في دول الاتحاد الأوروبي والأطلسي خصوصاً أن نصف تجارة تركيا مع الأوروبيين و80 في المئة من الاستثمارات الأجنبية في تركيا هي من دول غربية، والثانية عربية، وتتمثل بشكل أساسي في الدول الخليجية الغنية، والتي يحصرها أردوغان في السعودية والإمارات وقطر.
لا شك في أن تركيا مرت خلال السنوات الماضية بمحطات ومغامرات وتحديات متعددة مع الدول الغربية والعربية، بما فيها مصر وفي شرق المتوسط. وليس خافياً على أحد أن سياسة «صفر مشكلات» هي أحد الأسباب الرئيسية لنمو الاقتصاد التركي في السنوات الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية، وما التدهور الذي حصل لاحقاً، ولا سيما في السنوات الأخيرة سوى انعكاس لسياسات الاشتباك العسكري أو السياسي أو الاقتصادي الذي مارسته تركيا مع معظم دول المنطقة وشرق المتوسط.
لذلك فإن عودة تركيا إلى سياسة المصالحة الفعلية مع الدول العربية ومنها الخليجية ومصر، تمثل عودة إلى المسار الصحيح على أمل أن تتوسع مساحات المصالحة، لتشمل أيضاً سوريا بسلام حقيقي وعادل.
(الخليج)