ليس أمرًا بسيطًا أو ثانويًا أن يشكّل طلبة جامعة كولومبيا، بوصفها المصنع الذي يرفد الدولة الأمريكية بجنرالات السياسة والحروب، رأس حربة نزع صفة القداسة عن "فزّاعة اللا سامية" باعتبارها لافتة اغتيال معنوي وربما جسدي لكل من يتطاول على إسرائيل في العالم، فكيف ببراعم وشباب مستقبل الولايات المتحدة الذين لهذا الغرض نفّذ رئيس مجلس النواب الأمريكي مايك جونسون على رأس كتيبة نيابية عملية مداهمة لحرم جامعة كولومبيا بهدف تهديد الطلاب والحجر على آرائهم الرافضة لاستمرار العدوان على فلسطين والفلسطينيين، ما دفع بعض الجامعات للإغلاق وإحالة ملف مخيمات الطلاب للجهات الأمنية بغية تدجين الطلّاب وإخضاعهم و"إدانة سلوكهم" كما طالب نتنياهو.
انتفاضة طلاب الجامعات الأمريكية تحمل في أحشائها كل بذور تحوّلها إلى حركة عالمية
مشهد طلاب جامعة كولومبيا وجامعات أمريكية أخرى، والذي لم يحصل منذ حرب فيتنام، يؤسّس لتبدّل عميق في توجهات الرأي العام الأمريكي والعالمي، ولبداية إرهاصات وديناميات سياسية جديدة تلغي انحياز الإدارات الأمريكية ما بعد الأعمى لجانب "اسرائيل". ويبدو أنّ الصرخة النارية التي أطلقها الطيار الأمريكي آرون شومل أمام مقرّ السفارة الإسرائيلية في واشنطن لم تزل مدوية في أعماق الأمريكيين كحجر أساس صرحٍ جديد لتمثال الحرية.
باستثناء الاعتصام الاحتجاجي المؤثّر الذي ينفذه أهل الأردن في محيط السفارة الاسرائيلية في عمّان، لا أثر حقيقيًا لأي حراك شعبي بمستوى المجزرة الإسرائيلية المتواصلة في غزّة وكل فلسطين، وربما تلاشى الرهان على تحوّل اعتصامات الاردن إلى عدوى تصيب البلاد العربية، سيّما المطبّعة مع "إسرائيل".
لقد أشعل العدوان على غزّة ثورة طلابية عالمية، فعدوى انتفاضة طلاب الجامعات الأمريكية تحمل في أحشائها كل بذور تحوّلها إلى حركة عالمية تعانق دعوى جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، وأيضًا دعوى نيكاراغوا ضد ألمانيا لانخراطها في تسليح إسرائيل وتمويلها، فضلًا عن الدعاوى لمحاكمة قادة "إسرائيل" أمام محكمة الجنايات الدولية.
حراك طلاب الجامعات الأمريكية بات على أجندة المتابعة الدقيقة لإدارة بايدن، وأيضًا للدول الأوروبية المنخرطة والشريكة في العدوان على الفلسطينيين، سيما بعدما انتقلت إليها شرارة انتفاضة الطلاب الأمريكيين كما حصل في جامعة السوربون الفرنسية، وهي الشرارة المرشحة لتعم كافة الجامعات الأوروبية، خصوصًا منها تلك الداعمة والراعية "لإسرائيل" وجرائمها الإبادية بعيدًا عن القانون الدولي.
ليس سهلًا على الولايات المتحدة الأمريكية مواجهة طلّابها وشعبها، سيّما بعد عزلتها الدولية الأخلاقية وهي تستخدم الفيتو لعدة مرّات ضد وقف إطلاق النار في غزّة، ومؤخرًا ضد قرار قبول عضوية فلسطين الكاملة في منظمة الأمم المتحدة، ما يفضح ادعاءاتها الكاذبة بـ"حلّ الدولتين" التي سحقها نتنياهو تحت جنازير الدبابات، كما سحق شارون "المبادرة العربية للسلام" لحظة إطلاقها ذات قمّة عربية في بيروت. ولمحاولة فك العزلة، تهافت بايدن ومعه 17 رئيس دولة لإصدار بيان يدعو للإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين لدى "حماس".
الحرب على غزّة بوصفها أطول حروب إسرائيل باتت تشكل مرجلًا لتحوّلات كبيرة في المنطقة والعالم. وادعاء واشنطن الحرص لمنع اتساع رقعتها لا يتسّق مع انخراطها العسكري والتسليحي والتمويلي الكامل لإسرائيل، كما أنّ هذا الادعاء سقط للمرة الثانية بعد 7 أكتوبر إثر المواجهة الإيرانية الإسرائيلية والردود المعلنة والغامضة والتي برزت فيها هشاشة قوة "إسرائيل" المحميّة بالبوارج والأساطيل الأمريكية والأطلسية. وبعيدًا عن حملات توهين أو تضخيم الردّ الإيراني على حادثة القنصلية في دمشق، والردّ الإسرائيلي الغامض عليه، فقد بدت واشنطن أشبه بضابط إيقاع وعرّاب الردّين الإيراني والإسرائيلي.
ينبغي التوقف عند موجة التهويلات الغربية المتجدّدة من شنّ إسرائيل حربًا على لبنان
وعليه، فاتساع الحرب بات مطروحًا بقوّة أقلّه في جبهات المساندة من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان، حيث سجّلت الجبهة اللبنانية الجنوبية ارتقاءً نوعيًا في أداء "حزب الله" ولغته العسكرية الجديدة من لحظة الردّ الإيراني، وأخذت "العمليات المركّبة" تنال من مواقع وجنود الاحتلال في عرب العرامشة وغيرها، وآخرها في استهداف مقرّ لواء "جولاني" في عكّا قبيل حيفا بفارق بسيط، تزامنًا مع شنّ جيش الاحتلال هجومًا كثيفًا من الغارات والأحزمة النارية كما صرّح وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت.
وبدا الأداء العسكري لـ"حزب الله" بمثابة رسالة تحذير قوية لجنرالات الكيان من مغبة الهجوم على لبنان، وهنا ينبغي التوقف عند موجة التهويلات الغربية المتجدّدة من شنّ إسرائيل حربًا على لبنان كما يهدّد غالانت ونتياهو اذا لم يتم فصل جبهة الجنوب عن مجريات الحرب على غزّة. وتردّد أنّ رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي تبلّغ تهديدات إسرائيل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يعاني من إخفاقات عميقة في شرقي المتوسط ودول الساحل الأفريقي بوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد، ويحاول اليوم اختراع دور يحفظ بعض النفوذ لبلاده ولو من فوق حطام وأشلاء غزّة، لكن ما يريده ماكرون لبنانيًا لم يزل يصطدم بموقف "حزب الله" الإسنادي للمقاومة الفلسطينية حتى تتوقف الحرب على غزّة والتي وضعت على نار حامية خصوصًا في رفح بعد تركيب مصر والإمارات مخيمات جديدة بالقرب من خان يونس سيُدفع النازحون إليها أو إلى رصيف بايدن البحري بحجة نقل المساعدات، ويستبطن عملية تهجير قسري بعضه باتجاه سيناء، ما يطرح الأسئلة حول حقيقة موقف مصر ودورها وموقعها القيادي في المنطقة، ويلغي طرح السؤال حول دور إيران المتعاظم في المنطقة انطلاقًا من محنة غزّة وفلسطين!
قبل عملية رفح المرتقبة، توغل جيش الاحتلال في مدن شمال غزّة ووسطها، وها هي "كتائب القسّام" و"سرايا القدس" وفصائل المقاومة الفلسطينية لم تزل تقاتل في كل المحاور وتتصيّد الدبابات وتقنص الضباط والجنود، وتنفذ الكمائن وتقدّم صورًا ملحمية من الاشتباك الدائر على امتداد القطاع، ما يدحض كل ادعاءات نتنياهو وجنرالاته باقتراب لحظة النصر المعقودة اللواء على عملية اجتياح رفح التي سيطلق نتنياهو العنان لها خصوصًا إذا ما سلّمت الأطراف بانسداد المفاوضات وفشل التوصل إلى صفقة.
الأسئلة حول مستقبل الكيان لم تعد ترفًا للحالمين بتحرير "فلسطين من البحر إلى النهر"
لكن ماذا لو فشلت عملية اجتياح رفح، ولم تحقق أهدافها في تحرير المحتجزين الإسرائيليين والقضاء على قادة "القسّام" والمقاومة الفلسطينية؟ وأيّ الجنرالات سيستقيل بعد رئيس الاستخبارات العسكرية على خلفية إخفاقه صبيحة السابع من أكتوبر المجيد؟ وما حقيقة التداعيات التي ستصيب جيش الاحتلال وبيئته الحاضنة في معركتهم الوجودية؟
لم تعد الأسئلة حول مستقبل الكيان ترفًا للحالمين بتحرير "فلسطين من البحر إلى النهر"، الشعار الذي يرفعه طلّاب جامعات الولايات المتحدة، وبسببه يتم اغتيالهم معنويًا بتهمة معاداة السامية، رغم أنّ بعض قادة الانتفاضة الطلّابية الأمريكية يهود لكنهم ليسوا صهاينة على دين جو بايدن.
(خاص "عروبة 22")