صحافة

الشرق الأوسط الجديد.. بين الرؤية الإسرائيلية الأمريكية والرؤية الإيرانية

يحيى عبدالله

المشاركة
الشرق الأوسط الجديد.. 
بين الرؤية الإسرائيلية الأمريكية والرؤية الإيرانية

في كتابه: «الشرق الأوسط الجديد» (ترجمة محمد حلمي، الأهلية للنشر والتوزيع، الأردن 1414هـ ــ 1994م) طرح رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، شمعون بيرس، (1923 ــ 2016م) تصورا لنظام إقليمي، يستند إلى تحالف بين دول الإقليم، بما فيها إسرائيل، بالطبع، في مجال الأمن القومي، على غرار حلف «الناتو»، وإلى تعاون اقتصادي بينها في مجالات؛ الزراعة، والصناعة، والتجارة، والسياحة، والمواصلات، حتى إنه ذكر، بالتفصيل، ضمن أمور أخرى، شبكات المواصلات التي ستُدشَّن في المنطقة: «إقامة خطوط سكك حديدية، وشق طرق سريعة، تربط دول المنطقة ببعضها البعض والمنطقة كلها بإفريقيا وبأوروبا، عبر الطرق البرية أيضا»، كما وصف مسارات السكك الحديدية التي ستشجع، على حد قول الكتاب، التجارة والسياحة بين دول المنطقة، وستتيح، ضمن أمور أخرى، التنقل من إسرائيل إلى السعودية ودول الخليج.

كانت عين بيرس على المال الخليجي وهو يؤسس لهذا التصور، حيث طالب الدول النفطية، تحديدا، بأن تضخ استثمارات في شرايين هذا الاقتصاد المأمول: «ربما حان الوقت لتضطلع الدول المنتجة للنفط بمسؤوليتها وتساهم بما نسبته 1% من دخلها لتطوير الإقليم». لم يغب عن بال بيرس، أيضا، أن يشير إلى أن إسرائيل ستسهم من خلال تكنولوجيتها المتقدمة في تطوير مجالات الزراعة، والري، ومكافحة التصحر، وحتى في مجال الثروة الحيوانية: «يمكننا أن نحقق هذه الأهداف باستخدام التكنولوجيا الحديثة، التي توفر تطبيقات عملية للاختراعات العلمية، تتراوح ما بين الري المنظم بواسطة الكمبيوتر، وإنتاج الأغذية في مربع لا ماء فيه». وضرب مثلا على هذا التفوق الإسرائيلي في مجال التكنولوجيا: «عندما استأنفت روسيا علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، عام 1991م، كان من بين الأشياء الأولى التي قام بها الروس، شراء الأبقار الإسرائيلية (وكأن روسيا كانت تتطلع بفارغ الصبر لاستئناف العلاقات من أجل شراء الأبقار الإسرائيلية!!!). إذ تبين أن البقرة الإسرائيلية توفر حليبا يزيد ثلاثة أضعاف، عما توفره البقرة الروسية بالفعل. هي البقرة، نفسها، ولها القرون، نفسها، لكن الاختلاف يكمن في المنظومة العلمية والتكنولوجية، التي نطبقها في إسطبلاتنا».

رغم أن التصور الذي يطرحه بيرس، في كتابه، يهدف في الأساس، إلى دمج إسرائيل في المنطقة وإضفاء صفة «الطبيعية» عليها وعلى وجودها، وتطبيع علاقاتها مع دول الإقليم، فإن به جانبا مهما، يتمثل في السعي الحثيث نحو تسوية إقليمية لحل المشكلة الفلسطينية، حتى وإن اختلفنا في تقييمنا لجوهر هذه التسوية (يستطيع القراء الوقوف على طبيعة هذه التسوية إذا دققوا النظر في اتفاقيات أوسلو الموقعة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993م، التي كان بيرس وتلميذه، يوسي بيلين، مهندسيْها).

القضية الفلسطينية حاضرة، بقوة، في صلب هذا التصور، الذي يرى أن إبقاءها بدون حل سيهدد استقرار العلاقات التي يجرى إقامتها الآن مع الدول العربية، وسيحول إسرائيل إما إلى دولة احتلال و«أبارتهايد»، وإما إلى دولة ثنائية القومية.

ألهم التصور، الذي طرحه بيرس، في تسعينيات القرن الماضي، خيال سياسيين إسرائيليين لاحقين، مع اختلاف في نقطة الانطلاق وزاوية الرؤية، منهم، رئيس الحكومة الحالي، بنيامين نتنياهو، الذي نجح في توسيع دائرة التطبيع مع الدول العربية (توقيع اتفاقيات أبراهام مع الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين، ودولة المغرب، والسودان، وتشاد)، وكان قاب قوسين أو أدنى من تطبيع العلاقات مع السعودية، لولا أن باغته هجوم «حماس» والفصائل الفلسطينية في السابع من أكتوبر عام 2023م.

تحمس نتنياهو إلى المشروع الضخم الذي أعلن عنه الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في ختام اجتماع قمة «مجموعة العشرين» في نيودلهي عام 2023م، بشأن إقامة منظومة سكك حديدية، وطرق تجارة تربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا، وتمر عبر السعودية والإمارات والأردن وإسرائيل (وتسقط مصر تماما من المنظومة!!!). هناك تطابق (بكل ما في الكلمة من معنى) بين المشروع الذي أعلن عنه بايدن في 2023م، ورؤية بيرس للشرق الأوسط الجديد، كما يعرضها كتابه، الصادر عام 1994م، مما يدعو للظن بأن الرؤية رؤية إسرائيلية خالصة، وبأن «الطبخة» الإقليمية وصفة إسرائيلية بامتياز. من هنا كان ترحيب نتنياهو بمشروع بايدن، أو بالأحرى بمشروع بيرس في الأساس، ووصفه إياه بأنه «خطوة تاريخية ستؤدي إلى اندماج إسرائيل في الإقليم وإلى تعاون بين الإقليم والعالم»، وبأنه «فريد وغير مسبوق، وليس أقل من تحويل حلم إلى واقع، وبأنه سيغير وجه الشرق الأوسط».

لكن نتنياهو، على العكس من بيرس، يتجاهل المسألة الفلسطينية، ولا يطرح أي مبادرة سياسية تحدد أفقا لحل دائم (باستثناء خطاب بائس ألقاه في جامعة بر إيلان عام 2009م، طرح فيه رؤية هزيلة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، سرعان ما تنكر لها بعد أن عارضتها قاعدته الانتخابية اليمينية) ولا يرى في استمرار الاحتلال عبئا على قدرة إسرائيل على الاندماج في المنطقة.

تستبعد الرؤية الإسرائيلية ــ الأمريكية للإقليم، في كل نسخها وصورها، إيران من المعادلة. لا تكتفي الرؤية الإسرائيلية ــ الأمريكية باستبعاد إيران وحسب، وإنما تناصبها العداء منذ نجاح الثورة الإيرانية على الشاه (حليف أمريكا وإسرائيل) عام 1979م، وإقامة نظام جمهوري إسلامي، يناهض الهيمنة الأمريكية ــ الإسرائيلية. تمثل هذا العداء في استدراج الجمهورية الإسلامية، الوليدة، إلى حرب استنزاف لمدة ثماني سنوات مع العراق، عُرفت باسم حرب الخليج الأولى، أو الحرب العراقية ــ الإيرانية (1980 ــ 1988م)، خلفت نحو مليون قتيل من الجانبين وخسائر مالية تُقدر بنحو 400 مليار دولار، وفي فرض عقوبات قاسية على إيران، وفي اغتيال إسرائيل للعديد من العلماء الإيرانيين في مجال الطاقة النووية، داخل وخارج إيران، ومهاجمتها الوجود الإيراني في سوريا واغتيال العديد من قادة الحرس الثوري الإيراني، كان آخرهم حسين مهدوي، الذي قتل في الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من شهر أبريل 2023م، وهو الهجوم الذي استتبع ردا إيرانيا غير مسبوق على إسرائيل انطلاقا من الأراضي الإيرانية نفسها، في الليلة ما بين السبت والأحد بالرابع عشر من شهر أبريل 2023م، وليس عبر حلفاء إقليميين، وأحدث تغييرا استراتيجيا في الشرق الأوسط.

خلق الرد الإيراني معادلة جديدة في المنطقة، قوامها التخلي عن سياسة «الصبر الاستراتيجي»، التي تتطلب، بحسب، ناداف أيال، في يديعوت أحرونوت، «صبرا من أجل الوصول إلى هدف أشمل، يتمثل في خلق هيمنة إيرانية إقليمية والامتناع عن الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية». تفرض المعادلة قواعد جديدة للعبة، منها تقييد حرية العمل العسكري أمام إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ضد إيران. يقول، راز تسيمت، الخبير في الشؤون الإيرانية وكبير الباحثين بمعهد بحوث الأمن القومي الإسرائيلي وبمركز إليانس للدراسات الإيرانية بجامعة تل أبيب، إن إيران «تقدم، بعد هجومها على إسرائيل، رؤية لشرق أوسط جديد لا يجوز الاستخفاف بها، وترسخ وجودها في المنطقة بفضل بضعة عوامل منها، استفادتها من الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م لتعزيز وجودها في العراق، وتطوير علاقاتها مع روسيا، بعد اندلاع الحرب مع أوكرانيا، إلى مرتبة استراتيجية».

من ملامح الرؤية الإيرانية للمنطقة، أنها ترى في التطورات الدولية فرصة لتأسيس نظام عالمي متعدد الأقطاب، ليس بزعامة أمريكية، تستطيع أن تؤدي فيه دورا أكثر تأثيرا إلى جانب حلفائها الإقليميين (الحزام الناري الذي أحكمته حول إسرائيل في غزة، والضفة الغربية، ولبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، وربما الأردن، لاحقا، إن استطاعت إلى ذلك سبيلا) وإلى جانب شركائها الدوليين وعلى رأسهم الصين وروسيا. وقد أفصح المرشد الإيراني، علي خامنئي، عن بعض ملامح هذه الرؤية، في خطاب ألقاه في نوفمبر 2022م، قال فيه إن الولايات المتحدة الأمريكية «لم تعد القوة المهيمنة في العالم وإن النظام العالمي يتغير في اتجاه تأسيس نظام جديد، يستند إلى نقل القوة السياسية، والاقتصادية، والثقافية من الغرب إلى آسيا، وإلى توسيع جبهة المقاومة». وقد عبَّر كبير مستشاري المرشد الإيراني للشؤون العسكرية، يحيى رحيم صفوي، عن ثقته في «انتصار جبهة المقاومة بقيادة إيران، وعن تشكل شرق أوسط جديد في المنطقة، في القلب منه إيران». لقد أصبحت إيران قوة إقليمية كبرى، ولم تعد تخشى من الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل. لقد «خرجت من الظل»، بحسب تعبير، رونين برجمان، في يديعوت أحرونوت، منذ فترة، وهي «تمرح الآن في كل أنحاء الشرق الأوسط».

نحن، إزاء رؤيتين متصادمتين بالمنطقة، لا ندري أيهما سيكون لها الغلبة في نهاية الأمر. الأمر المؤسف أن العرب مجرد بيادق في صدام الرؤيتين. ليس لهم رؤية خاصة بهم. هم غافلون، حتى، عن مصالحهم الاستراتيجية. مستقبلهم ترسمه قوى خارجية. ما أحوجنا، نحن العرب، إلى تقديم رؤية مستقلة، تراعي مصالحنا، وتخدم قضايانا. لماذا نبدو عاجزين عن تقديم وفرض رؤية خاصة بنا؟ لماذا تغيب أجندتنا؟ لماذا لا نكون، على الأقل، مثل إسرائيل وإيران؟ لا تنقصنا الموارد البشرية، ولا سائر المقومات التي تجعلنا في وضع القائد والمبادر وليس في وضع المقود دائما.

("الشروق") المصرية

يتم التصفح الآن