يخشى رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وحكومته اليمينية أن تتخلى الولايات المتحدة عن دعم إسرائيل في معركة اجتياح رفح، معركة تقول إنها في مواجهة أربع كتائب فلسطينية مسلحة فقط، بينما يمتلك الجيش الإسرائيلي فرقا كاملة من القوات البرية، مدعومة بأحدث طائرات العالم، وقوات بحرية، وما لا يحصى من أنواع الذخائر، ومع ذلك يقول نتنياهو «سندخل الحرب في رفح بمفردنا، وسنحارب بأظفارنا»، ويلوم الرئيس الأمريكي بايدن على تأجيل تسليم إسرائيل شحنة من الذخائر، مع أن مخازن الجيش الإسرائيلي عامرة بأشد أنواع الذخائر فتكا.
فلماذا الخوف الإسرائيلي من اجتياح رفح رغم كل هذا التفوق في السلاح؟ ينبع الخوف الإسرائيلي والتردد في اتخاذ قرار اجتياح رفح لعدة عوامل، أحدها الغرق في رمال غزة، والفشل في حسم الحرب، رغم كل هذا التفوق، فرغم دخول الحرب شهرها الثامن لم تحقق إسرائيل أيا من الأهداف التي وضعتها، وعلى رأسها اجتثاث حماس وباقي الفصائل المسلحة، وتحرير الأسرى، وتنصيب حكومة موالية للاحتلال، أو تولي إدارة قطاع غزة. والخطأ الإسرائيلي أنه رفع أسقف عالية لا يمكنه أن يطولها، في غمرة من الاندفاع الزائد تحت وطأة صفعة السابع من أكتوبر.
وإذا أردنا معرفة حجم المأزق الذي تعيشه إسرائيل وحكومتها اليمينية، فعلينا المقارنة بين وضعها عندما قررت الانسحاب أحادي الجانب من غزة في ظل حكومة رئيس الوزراء الأسبق أرييل شارون عام 2005، ونفذته عام 2007، وبين الوضع الحالي. فقد كانت غزة في 2005 لا تملك إلا أسلحة خفيفة ومحدودة، مجرد عدد محدود من البنادق الآلية، والقنابل اليدوية، والصواريخ البدائية، التي لا يتعدى مداها مئات الأمتار، ومع ذلك خشي منها شارون، وأزال القواعد العسكرية، و17 مستوطنة كانت تقسمها، أما الوضع الدولي فكان مريحا لإسرائيل في ظل الهيمنة التامة للولايات المتحدة بعد انهيار الإتحاد السوفيتي، وانشغال روسيا بترميم أوضاعها المتدهورة، وانعزال الصين في شرنقتها، بينما كانت الولايات المتحدة تحتل العراق، وتهدد بإسقاط سوريا، وتمرح في أنحاء العالم مزهوة بانفرادها بمقدراته. أما الآن فالأوضاع تغيرت كثيرا، وغزة أصبحت تمتلك صواريخ الكورنيت والياسين المضادة للدروع، وصواريخ مداها يتخطى تل أبيب، وشبكة أنفاق شديدة التعقيد من عدة طبقات، منفصلة أو متصلة، لا يمكن تدميرها بالقنابل التقليدية، وحاضنة شعبية، وجبهة إسناد إقليمية، وراكمت الفصائل الفلسطينية عناصر قوة لم تنجح مخابرات إسرائيل وحلفائها فى معرفة إلا القليل عنها.
أما موازين القوى الدولية والإقليمية فقد تغيرت بأسرع مما تصور أي من قادة الغرب، الذين كانوا يظنون أن الهيمنة الأمريكية ستظل لقرن على الأقل، وربما إلى أمد غير منظور، وأننا وصلنا إلى نهاية التاريخ. لكن ما حدث هو أن نهاية الهيمنة الأمريكية اقتربت، وتراجعت القوة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية بسرعة مذهلة، وكان على قادة إسرائيل أن يخفضوا من سقف طموحاتهم بناء على معطيات تراجع القوة الأمريكية، لكن ما حدث أن اليمين الإسرائيلي راح يوسع من أحلامه وأطماعه، وحلق بعيدا جدا، حتى إنه لم يعد قادرا على رؤية الواقع، فسقط في بئر سحيقة، ولم يعد قادرا لا على التراجع ولا على المضي إلى الأمام، وليس أمامه الآن إلا الغرق في رمال غزة المتحركة، أو ارتكاب أبشع الجرائم المروعة في التاريخ، أي ارتكاب إبادة مروعة أو تهجير قسري، وأي من الخيارين سيهزان العالم، وأول من ستتأثر مكانة وربما بقاء الولايات المتحدة، التي تشهد أوسع حراك لطلاب الجامعات، الأشد منذ حرب فيتنام، والذي قد يزداد خطورة مع توافر الانقسام الداخلي والأزمة الاقتصادية، وتدخل أمريكا نفق اضطرابات يمكن أن تقوضها من الداخل. لهذا يتحسس الرئيس بايدن خطواته، ويشعر قادة أمريكا بالخوف من القادم، ولا يريدون النفخ في النار، حتى لا تحرق الجميع، وألا تنجر إلى حرب واسعة في الشرق الأوسط، تزيد من أزماتها وتعمق جراحها، خاصة في ظل شبح الهزيمة أمام روسيا في أوكرانيا.
لكن نتنياهو لا يأبه بالحسابات الأمريكية، ويدرك أن أي إدارة أمريكية ستكون مجبرة على الوقوف إلى جانبه شاءت أم أبت، وأن تشارك إسرائيل في مقامرتها بدخول رفح، وارتكاب الفظائع، والاكتواء بحرب واسعة، ولا مجال للتراجع.
إن نتنياهو يرى في عدم اجتياح رفح هزيمة لا يمكن تحملها، وأن المقامرة لا مفر منها، بينما يحاول بايدن البحث عن مسار آخر، يجنب إدارته الرهان بمصيره أيضا، وربما مصير الولايات المتحدة.
("الأهرام") المصرية