بجانب البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي والخارجية الأمريكية التي قد تكون الأكثر تأثّرًا بموقف الحزب الفائز في الانتخابات بحكم صلاحية الرئيس لتعيين أنصاره في تلك المؤسسات، فإنّ علاقة إسرائيل تبدو أكثر استقرارًا مع وزارة الدفاع وأجهزة الاستخبارات مثل وكالة المخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي وغيرها، والتي يتحكّم بها بيروقراطيون وخبراء مهنيون لديهم القدرة على الحد من شطحات السياسيين الذين يمارسون لعبة الباب الدوار كل أربعة أعوام.
ولا يمكن أن ننسى بالطبع شركات إنتاج الأسلحة العملاقة وأصحاب الثروات الهائلة من اليهود الأمريكيين النافذين في العديد من المؤسسات الإعلامية والصناعية والتجارية، وكلهم ظهير خلفي لإسرائيل قادر على ممارسة الضغوط على الساسة المنتخبين الذين هم بحاجة دائمة لتمويل حملاتهم الانتخابية.
وتمثّل المؤسسات التشريعية، وتحديدًا مجلسا "النواب" و"الشيوخ"، منفذًا آخر شديد الأهمية لنتنياهو من أجل التأثير على السياسة الرسمية الأمريكية. وإذا كان الرئيس الديمقراطي الحالي جو بايدن قد بلغ ضجره من نتنياهو حده الأقصى وتخطى خطًا أحمر يتمثل في تعليق شحنة يتيمة من الأسلحة الهجومية لإسرائيل، فإنّ نتنياهو يعرف أنه لديه القدرة على تحدي ذلك القرار من خلال استخدام علاقاته المتشعبة داخل المؤسسات الأمريكية واللوبي القوي المؤيّد للكيان الصهيوني.
نتنياهو استغل الاستراتيجية الساذجة الفاشلة التي اتبعها بايدن حتى آخر مدى
وتعبيرًا عن ثقته المفرطة في قدرته على الاستهانة ببايدن، قام نتنياهو بجمع أعضاء حكومته الموسّعة في أعقاب الإعلان عن تعليق شحنة الأسلحة على لسان الرئيس الأمريكي شخصيًا لكي يتخذوا قرارًا بالتوسّع في عملية اجتياح رفح وترديد تصريحاته الجوفاء التي يزعم فيها أنّ إسرائيل ستقاتل وحدها لو اضطرت لذلك، بل وستحارب "بأظافرها" من أجل تحقيق الانتصار في الحرب التي دخلت شهرها الثامن دون أي معلم من معالم الانتصار المزعوم.
من المؤكد أنّ بايدن يحتاج إلى وقف فوري للحرب التي طالت وعزلت الولايات المتحدة على الصعيد الدولي، كما عزلت حليفتها إسرائيل التي تناصرها ظالمة دائمًا وأبدًا، خاصة في ضوء ما تسببه من انقسام حاد في صفوف الحزب الديمقراطي الذي يرفض الجناح التقدمي فيه استمرار الحرب والدعم الأعمى لإسرائيل، والغضب المتنامي في صفوف أبناء الجالية العربية والمسلمة الأمريكية الذين قد تشكل أصواتهم عاملًا حاسمًا في ولاية أو اثنتين على الأقل في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبل في مواجهة خصمه اللدود الشرس دونالد ترامب.
كما أنّ مظاهرات الجامعات الأمريكية تشكل مصدر إزعاج للرئيس الأمريكي رغم محاولته التقليل من شأنها وترديد ما يقوله اليمين الأمريكي من أنّ الطلبة المتظاهرين لا يشكلون سوى أقلية بين إجمالي الطلبة الأمريكيين، واتهامهم بالتخريب و"معاداة السامية" أحيانًا.
لكن بايدن المخضرم والمنتمي حتى النخاع للمؤسسة الرسمية الأمريكية منذ عقود طويلة يعرف جيدًا حدود قدرته على مواجهة نتنياهو، وهو كان قد برّر انحيازه وشراكته لرئيس الوزراء اليميني المتطرّف على مدى الشهور الأولى من الحرب بأنّ هذه الاستراتيجية هي ما ستسمح له لاحقًا بممارسة الضغوط عليه ودفعه للاستجابة لمطالبه، خاصة فيما يتعلق بزيادة كمية المساعدات الإنسانية التي تدخل قطاع غزّة.
بالطبع نتنياهو استغل هذه الاستراتيجية الساذجة الفاشلة التي اتبعها بايدن حتى آخر مدى، من دون الاستجابة لأي من مطالب الرئيس الأمريكي تقريبًا، حتى فيما يتعلق بتدفق المساعدات الإنسانية. وفقط بعد فضيحة قتل موظفي الإغاثة أصحاب البشرة البيضاء العاملين في "المطبخ المركزي العالمي" اضطر نتنياهو لتخفيف القيود لفترة لم تطُل، وسارع بعدها لاجتياح رفح واحتلال الجانب الفلسطيني من معبر رفح الحدودي مع مصر، ليتم بعدها إغلاق كل المعابر وتوقف تدفق المساعدات.
الوقت تأخر كثيرًا لكي يستطيع بايدن تغيير مواقف معارضيه داخل الحزب الديمقراطي المنقسم
على هذا الأساس، فإنّ قرار بايدين تعليق شحنة القنابل لإسرائيل لا يعدو كونه محاولة لإبراء الذمّة من عواقب الكارثة الإنسانية التي ستحل برفح مع مضي جيش الاحتلال في خطته لاجتياح المدينة المكتظة بنحو مليون ونصف المليون فلسطيني، غالبيتهم ممن اضطروا للنزوح عدة مرات منذ بدء حرب الإبادة الصهيونية.
القرار رغم ما أثاره من غضب في صفوف الجمهوريين وأنصار ترامب الذين سعوا لاستغلاله لأغراض انتخابية والزعم أنهم أنصار إسرائيل الحقيقيين، سيبقى مجرد رسالة رمزية ومحاولة فاشلة ومتأخرة لإرضاء الجناح التقدمي في الحزب والشباب الأمريكي المعارض لحرب الإبادة ضد الفلسطينيين في غزّة، عسى أن يتراجعوا عن قرارهم مقاطعة الانتخابات المقبلة والامتناع عن التصويت لصالح الرئيس الديمقراطي الصهيوني الكهل.
وفي أعقاب مشاهد العنف المرعبة التي استخدمتها الشرطة الأمريكية لفض مظاهرات طلبة الجامعات، فإنّ الوقت قد تأخر كثيرًا في الغالب لكي يستطيع بايدن تغيير مواقف معارضيه داخل الحزب الديمقراطي المنقسم.
(خاص "عروبة 22")