خلافًا لعادته وتهوره واندفاعه الدائم، فإن بنيامين نتنياهو ومعه قادة جيشه يتبعون نمطا مغايرا حتى الآن في رفح، يعتمد على القضم قطعة قطعة، ثم الهضم والابتلاع بهدوء بغرض الحصول على ثمن سياسي كبير، أو الاجتياح الكامل وتثبيت الاحتلال في رفح، تمهيدا لخلق واقع سياسي مستمر، كما يأملون ويحلمون.
حينما دخل الجيش الإسرائيلي مدن قطاع غزة المختلفة بعد أيام من عملية طوفان الأقصى في ٧ أكتوبر الماضي، فإنه كان يندفع بقوة كبيرة ويستخدم الطاقة القصوى لأسلحته بصورة غاشمة، ويقتل الجميع بعشوائية، باعتبار أن هذه الوحشية ستعيد له هيبته المفقودة وكرامته المهدرة وردعه الضائع، إضافة إلى إرهاب وتخويف المقاومة الفلسطينية ودفع وإعادة الهدوء والطمأنينة لمواطنيه في الداخل، وربما ذلك قد يفسر أحد أسباب زيادة عدد الضحايا من الشهداء والمصابين الذين زاد عددهم عن ٣٥ ألف شهيد و ٧٨ ألف مصاب، وآلاف المفقودين، ناهيك عن تدمير معظم مباني ومنشآت القطاع بحيث إنه صار غير صالح للحياة بشكل كبير مما يدفع الفلسطينيين للتهجير. لكن الطريقة التي يتصرف بها الجيش الإسرائيلي مختلفة إلى حد ما في رفح على الأقل حتى هذه اللحظة.
الجيش دخل معبر رفح واحتله وظل بعيدا عن تجمعات أهالي المدينة المحشورين في مناطق صغيرة ومعهم مئات الآلاف من الذين نزحوا من معظم مدن القطاع ولجأوا إلى رفح ظنا أنها آمنة كما أوهمهم قادة الجيش في بدايات العدوان.
بعد أن سيطر الجيش على المعبر، بدأ ينتشر بهدوء فسيطر على جزء من الطريق الرئيسي الذي يربط شرق رفح بغربها، ثم بدأ ينتشر على محور فيلادلفيا المحاذي للحدود المصرية والبالغة حوالى ١٤ كيلومترا.
طوال الوقت كان نتنياهو يقول علنا ويخاطب الإعلام أن مهمة الجيش في رفح محدودة، وبالطبع كان يناور حتى لا يدخل في صدام مفتوح مع الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي اشترط عليه علنا عدم شن عملية واسعة النطاق في رفح قبل أن ينقل أهالي المدينة إلى أماكن آمنة ومؤمنة وصالحة للحياة.
وتقديري أن الموقف الأمريكي لم يكن حقيقيا بالقدر الكافي الذي يردع نتنياهو، بقدر ما كان موقعا لامتصاص غضب العرب والمسلمين والاحتجاجات الطلابية واسعة النطاق وبدلا من أن يتخذ بايدن موقفا حقيقيا جادا ويوقف الجسر الجوي المفتوح لإسرائيل، جمد صفقة ذخائر واحدة لإسرائيل ثم أفرج عنها قبل أيام، ونسى بايدن رفح ثلاث مرات في لقاءات وخطب بكلمات أساسية وحينما تذكرها بعد أسبوع من الاحتلال الإسرائيلي فقد قال إن الأمر يمكن أن ينتهي فورا إذا أطلقت حماس سراح الأسرى، وهو تصريح فهمته المقاومة الفلسطينية بصورة صحيحة وهي أنه يعطي إسرائيل الفرصة لإكمال مهمتها.
بعد هذا التصريح ألمحت إسرائيل إلى أنها سوف توسع من عملياتها في رفح، وطلبت من سكانها والنازحين إليها بالتحرك غربا تجاه مخيمات الكثبان الرملية في المواصي أو مخيم الشاطئ.
وباستثناء الموقف المصري الصلب إلى حد ما، فإن غالبية المواقف الدولية كانت مجرد إما رفض لدخول إسرائيل إلى رفح أو مناشدة لها بعدم توسيع عملياتها، وهو أمر يفهمه نتنياهو وقادة جيشه باعتباره تصريحا مهذبا بالاستمرار في العملية.
حتى هذه اللحظة فإن نتنياهو غيّر تكتيكه الفج والغاشم، ويلتزم بالهدوء حتى يثبت أقدام الجيش في رفح.
مرة أخرى وما لم تحدث معجزة تتمثل في إنذار أمريكي صارم لإسرائيل بالتوقف، وهو أمر لن يحدث، أو خسائر قوية توقعها المقاومة بالجيش الإسرائيلي أو انقلاب سياسي على حكومة نتنياهو، أو موقف عربي جاد وموحد فإن نتنياهو سيستمر في رفح وينفذ خطته خطوة خطوة، وربما يتبع استراتيجية استنزاف المقاومة عبر عمليات توغل في مناطق محددة خصوصا أن بنك الأهداف قد تم استنفاده منذ أسابيع طويلة. لكن في أغلب الظن فإن نتنياهو لن يترك رفح والمعبر بسهولة إلا بعد الحصول على ثمن سياسي كبير، فهل تمكنه المقاومة والعرب وبقية العالم من ذلك؟.
("الشروق") المصرية