الضحايا كلهن ينحدرن من أُسر فقيرة جدًا أو معدمة، كما الأغلبية الساحقة من المصريين، وكن جميعا خرجن من بيوتهن التي تشبه الجحور، مبكرين بكور الطير للعمل في أعمال شاقة بحثًا عن جنيهات قليلة يساعدن بها أُسرهن شديدة البؤس.
شرائح وطبقات اجتماعية سُحقت وصارت واقفة تهتز على حافة الهاوية
هنا لا مجال للحديث عن حقوق الطفل والمرأة وخلافه، إذ إنّ كلّها نظريًا متوفرة ومقننة في العديد من التشريعات والقوانين المصرية، لكن واقعيًا فإنّ البيئة الاجتماعية المهيمنة على أجواء البلاد تنضح بكل سموم البؤس والقسوة، وهي ترسم على الأرض لوحة مجتمعية كئيبة ومفزعة تتراكم فوق صفحتها تلال من أسباب إفقار مستمر وتأخر مستدام، فضلًا عن فساد وجهل وعشوائية تضرب كلّها بأطنابها في أحشاء المجتمع، وهي تفضي جميعًا إلى شقاء يتفاقم وتتسع دائرة ضحاياه يوميًا، ومن ثم ينخر بعنف في أبدان وأرواح ملايين المصريين واضعًا أغلبيتهم الساحقة على أعتاب هلاك محقق عندما يحرمهم من مجرد الحصول على فرصة للبقاء على قيد الحياة، إذ يبدو الفوز بهذه الفرصة حاليًا أمر صعب المنال جدًا ويحتاج إلى جهاد مضن، بل ربما يراه كثيرون يقع مباشرةً في قلب المستحيل!!.
مأساة حادث "أبو غالب" ليست الوحيدة بالطبع، وإنما هي جزء من سلسلة متصلة وطويلة من الحوادث والمآسي المماثلة التي يذهب ضحيتها سنويًا المئات من أبناء الفقراء في مصر، وفي كل مرة تقع مأساة من هذا النوع يثار ضجيج إعلامي وتتعالى في خضمه أصوات تطالب بإنزال عقوبات رادعة بحق من يسمونهم "الجناة" الذين هم غالبًا مواطنون بسطاء وفقراء مثل الضحايا تمامًا، كسائق حافلة أو قطار أو مركب وغيرهم من الفئة نفسها.
وقد لا يخلو الأمر من المطالبة بتعديل تشريعي يغلظ من العقوبة على أمثال هؤلاء المتهمين الصغار من دون أية إشارة للمسؤول الحقيقي الذي يجترح وينفذ سياسات اقتصادية واجتماعية موغلة في التهور والإجرام من شأنها أن تصنع وتفاقم بإطراد كل أسباب الضعة والفقر، وتمد يوميًا جحافل المعدمين - ثلثا المصريين الآن - بمدد جديد من شرائح وطبقات اجتماعية كانت حتى الأمس القريب تستطيع الحياة بقدر ولو قليل من الكرامة، لكنها حاليًا سُحقت وصارت واقفة تهتز على حافة الهاوية تنتظر لحظة السقوط النهائي في مستنقع العدم التام.
ملايين المصريين الفقراء يعيشون تحت الظلال الثقيلة لما يشبه جرائم الإبادة الجماعية
إذن، هذه السياسات التي تخاصم الرشد والعقل، تبتعد تمامًا عن كل ما يمت لفن السياسة - حتى ولو خرقاء ومفرطة في اليمينية - بأية صلة، بينما تتزين بسمات "الجريمة الخالصة".. نعم ملايين المصريين الفقراء يعيشون هذه الأيام تحت الظلال الثقيلة لما يشبه جرائم الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزّة، وربما لهذا السبب يبدو المصريون في حال تماهٍ تام مع معاناة الغزاوية، ليس فقط بسبب صلة الدم بين الشعبين والأخوة في العروبة والإنسانية، ولكن أيضًا لأنّ كليهما ضحية نوع واحد من الجريمة وإن اختلف الجناة.
ففي حين أنّ العنصريين الصهاينة المجلوبين من شتى أصقاع الأرض هم القتلة في فلسطين، فإنّ القتلة في مصر مجرمون محليون شبوا بين ظهرانينا ويتحدثون لغتنا.. ولا فخر.
(خاص "عروبة 22")