استدعت المفارقة التساؤل عن أسباب ودواعي الصفقة المفترضة، وإذا ما كانت مناورة جديدة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لكسب وقت إضافي في حرب الإبادة على غزّة.
لم تكن هذه المرة الأولى، التي تُطرح فيها مقترحات وصفقات لوقف إطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية من كافة المناطق المأهولة وتبادل الأسرى والرهائن وإدخال مساعدات إنسانية بكميات كافية إلى القطاع المعذّب.
اصطدمت كافة المبادرات السابقة برفض إسرائيلي معتاد ومتوقع.
خشية إجهاض مماثل أكد بايدن أنه "إذا استغرقت المفاوضات أكثر من ستة أسابيع، وهي مدة المرحلة الأولى، فسيستمر وقف إطلاق النار طالما استمرت المحادثات".
كان ذلك تعبيرًا عن فجوة ثقة مع نتنياهو.
المفارقة أنه يتحدث باسمه!
لم يشرح نتنياهو صاحب الصفقة الافتراضي أسبابه، لا عرضها ولا دافع عنها، مؤكدًا أنّ الحرب لن تتوقف حتى يجري تدمير "حماس" بقدراتها العسكرية والحكومية!
هذا داعٍ بذاته للريبة في أهدافها الحقيقية.
ما الذي استجد حتى ينسب بايدن الصفقة إلى نتنياهو؟!
إنه - أولًا - المأزق الإسرائيلي المستحكم، النخبة العسكرية والأمنية تكاد تُجمع أنّ "النصر المطلق"، الذي يطلبه نتنياهو وهم مطلق، واستمرار الحرب دون خطة سياسية لليوم التالي كارثة مروعة.
نتنياهو يريد جانتس وإيزنكوت بجواره دون أن يخسر حليفيه المتطرفين بن غفير وسموتريتش
التشققات الداخلية تضرب حكومته، العزلة الدولية تتزايد وطأتها، الاحتجاجات الشعبية والطلابية في قلب العواصم والجامعات الغربية تعصف بصورة إسرائيل، ومستقبله السياسي معلّق على ملاحقات قضائية داخلية إذا ما خسر منصبه، وخارجية إذا ما صدرت بحقه مذكرة توقيف ينتظر أن تُصدرها المحكمة الجنائية الدولية.
رغم ارتفاع شعبيته على حساب حليفه في حكومة الطوارئ ومنافسة على منصب رئيس الوزراء بيني جانتس، فإنه يقف على أرض هشة، تظاهرات أُسر الرهائن والأسرى تضغط عليه واحتجاجات أمهات الجنود تزعجه.
نتنياهو بحاجة ماسة لوقف أية انشقاقات محتملة في "حكومة الطوارئ"، التي أُعلنت عقب السابع من أكتوبر/تشرين الأول (2023)، ومنع خروج جانتس وحزبه "معسكر الدولة" في الثامن من يونيو الحالي كما هو معلن إذا لم يستجب لشروطه، وأهمها عقد صفقة يعود بمقتضاها الأسرى والرهائن. يريد جانتس وإيزنكوت بجواره دون أن يخسر حليفيه المتطرفين بن غفير وسموتريتش.
إذا ما استقال جانتس فإنّ حكومته لن تتأثر حيث تتوافر لديه أغلبية (64) مقعدًا في الكنيست، لكنها تنزع عنه أية ثقة في قدرته على إدارة الحرب.
وإنه - ثانيًا - مأزق بايدن، الذي يكاد يكلفه منصبه في الانتخابات الرئاسية الخريف المقبل بأثر الدعم المطلق لإسرائيل في حرب الإبادة، التي تشنّها على غزّة.
بايدن يطلب ترميم صورته وجبهته الانتخابية داخل الحزب الديمقراطي، أو أن يبدو كرجل سلام يطرح مبادرات ويعقد صفقات، لا كرئيس ضعيف يتلاعب به نتنياهو واليمين الإسرائيلي المتطرّف.
هكذا توافق بايدن ونتنياهو على إخراج الصفقة بالنحو الذي حدث. الأول، يعلنها من واشنطن.. والثاني، يتشدد من تل أبيب، رغم أنّ الصفقة منسوبة إليه!.
وإنه - ثالثًا - إخفاق العملية العسكرية الواسعة برفح في تحقيق أهدافها، لا جرى تحرير رهائن ولا تقوضت "حماس".
أثبتت المقاومة الفلسطينية قدرتها على إيقاع خسائر أكبر وأفدح بالجيش الإسرائيلي في جباليا شمال غزّة، التي قيل إنه سيطر عليها.
أفضت المجازر التي ارتكبت في رفح إلى رفع منسوب الغضب الدولي على السياسات الإسرائيلية، التي استخفت بأمر محكمة العدل الدولية وقف الهجوم العسكري عليها.
واستدعت الاشتباكات الحدودية بين الجيشين المصري والإسرائيلي بعد احتلال الشق الفلسطيني من معبر رفح ومحور فيلادليفا مخاوف إضافية أن تفلت الأمور عن أية سيطرة.
بصورة أو أخرى استنفدت الحكومة الإسرائيلية هامش المناورات الضيقة.
لا يمكن استبعاد دور وليم بيرنز مدير الاستخبارات الأمريكية في تصميم المشهد الجديد، فقد أشرف بنفسه قبل أقل من شهر على المسودة الأخيرة لاتفاق مماثل رفضه نتنياهو بعد أن أعلنت "حماس" موافقتها عليها.
التعديلات ليست جوهرية، لكن الحسابات المتغيّرة فرضت العودة إليها.
مالت "حماس"، كما حدث في الصفقة المجهضة، إلى إبداء قدر كبير من الانفتاح عليها دون تخلٍ عن طلب وقف إطلاق نار مستدام.
احتذت حركة "الجهاد" الإسلامي الموقف نفسه، لكنها سجلت في بيان رسمي أنّ هناك ما يدعو إلى الريبة، وهو استنتاج في محله تمامًا.
في خطابه الذي ألقاه بالنيابة عن نتنياهو لم يأتِ بايدن على ذكر "الدولة الفلسطينية" أو "حل الدولتين"
لا يمانع نتنياهو في التفاوض غير المباشر مع "حماس" للتوصل إلى صفقة ما ويطلب بالوقت نفسه تصفيتها بالكامل.
إنه داعٍ آخر للريبة.
وفق بايدن فإنّ الصفقة جزء من تصوّر أوسع للتهدئة على جبهتي جنوب لبنان والبحر الأحمر وإعادة ترتيب المنطقة من جديد ودمج إسرائيل فيها لاعبًا جوهريًا بـ"التطبيع التاريخي" مع السعودية.
إنها جوائز غير مستحقة بلا مقابل تقريبًا.
لم يأتِ بايدن في خطابه، الذي ألقاه بالنيابة عن نتنياهو، على ذكر "الدولة الفلسطينية" أو "حل الدولتين".
كان ذلك داعيًا إلى ريبة أخرى!.
(خاص "عروبة 22")