يبدو أن إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، قد حسمت أمرها وقررت أخيرًا التدخل بقوة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار وإنهاء للحرب في غزة وصفقة لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في القطاع، مقابل الإفراج عن عدد معتبر من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.
حسمت إدارة بايدن أمرها أيضًا فيما خص ضرورة أن يرتبط إنهاء الحرب بتوافق واسع حول حكم غزة في اليوم التالي يستند إلى دور رئيس للسلطة الفلسطينية ودعم إقليمي ودولي لها، وكذلك فيما خص حتمية إنهاء الحرب للحد من التوترات المتصاعدة على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية والحيلولة دون تدهور العلاقات بين القاهرة وتل أبيب، بسبب استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في رفح الفلسطينية وعلى امتداد الحدود في ممر فيلادلفيا.
قبل صيف الحملات الانتخابية الساخن في الولايات المتحدة، حسمت إدارة بايدن أمرها لجهة إنهاء الحرب والانتقال من يومياتها المفزعة إلى نقاشات أخرى عن اليوم التالي واحتواء خطر اشتعال حرب ثانية بين إسرائيل وحزب الله وخطر تدهور أوسع في الأمن الإقليمي الذي توظف القوة العظمى أدواتها العسكرية والدبلوماسية للحد منه في جنوب البحر الأحمر وعلى امتداد مناطق النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان. كما أن واشنطن تتوسط بين القاهرة وتل أبيب لمنع دخول العلاقات الثنائية في لحظة أزمة بسبب التصرفات الإسرائيلية ويساعدها في ذلك العقلانية الشديدة التي تبديها مصر في إدارة ملفات غزة من الضغط باتجاه إنهاء الحرب ومواصلة جهود الوساطة بين إسرائيل وحماس إلى الوضوح التام في تحديد المرفوض من القاهرة (كالسيطرة الإسرائيلية على معبر رفح في الجهة الفلسطينية) والتصرف حياله بفاعلية (إغلاق معبر رفح في الجهة المصرية مع السماح بدخول المساعدات إلى القطاع عن طريق معبر كرم أبوسالم لكيلا تتدهور الأوضاع الإنسانية في غزة، وهي مأساوية بالفعل).
تبحث الإدارة الأمريكية أيضًا عن تهدئة إقليمية تمكنها من تمرير صفقة ثنائية مع السعودية قد تتضمن تطبيعًا بين الرياض وتل أبيب نظير التوافق على مسار واضح مؤيد عربيًا ودوليًا لإقامة الدولة الفلسطينية والاعتراف بها ونظير ضمانات أمنية وامتيازات أخرى (مفاعلات لإنتاج الطاقة النووية) تقدمها واشنطن للرياض التي تتوقع إدارة بايدن من تطبيعها المحتمل مع تل أبيب انفتاحًا واسعًا في العالم العربي والإسلامي على فرص التسوية السلمية للقضية الفلسطينية وتفصيلًا لها على استمرار عسكرة القضية.
هكذا تقرأ إدارة بايدن الوضع في غزة وعموم منطقة الشرق الأوسط اليوم، وهي في حساباتها الكثيرة ليست متجردة أبدًا من الاعتبارات الانتخابية ومن الخوف من التداعيات السلبية لاستمرار الحرب على أصوات الناخبات والناخبين الأمريكيين العرب وبعض الناخبات والناخبين الأمريكيين من أصول إفريقية واحتمالية ابتعادها عن التصويت لصالح بايدن والحزب الديمقراطي في نوفمبر ٢٠٢٤.
غير أن الإدارة الأمريكية، وهي وإن أثبتت منذ أكتوبر ٢٠٢٣ وبما لا يدع مجالًا للشك أنها القوة العظمى الأكثر تأثيرًا في الشرق الأوسط والأكثر قدرة على تعبئة قدرات عسكرية ودبلوماسية هائلة للتعامل مع أزماته الدائمة، تتجاهل في مقاربتها لحرب غزة بعض الحقائق بالغة الأهمية التي تتناقض مع تفضيلاتها وحتما ستصعب في التحليل الأخير من احتمالية نجاح واشنطن في تنفيذ سياساتها.
بداية، ليس بإمكان الولايات المتحدة إجبار إسرائيل على السير في مسارات إنهاء الحرب والإدارة الفلسطينية للقطاع والتوافق على إطار تفاوضي لحل القضية. تحاول إدارة بايدن بإعلانها عن خطتها للسلام الضغط داخل إسرائيل على قوى اليمين المتطرف التي تسيطر اليوم على حكومة بنيامين نتنياهو وخلق مساحات للفعل السياسي للقوى الأقل تطرفًا لكي تصنع قرار السلام بدلًا من قرار مواصلة الحرب (وربما توسيع جبهاتها) ولكي تعظم من فرصها في انتخابات برلمانية مبكرة لم تتضح بعد احتمالية حدوثها. غير أن واشنطن، حتى عندما تقرر توظيف مساعداتها العسكرية والمالية لتل أبيب كأداة ضغط، لا تستطيع أبدًا أن تضمن سير حكومة إسرائيل في المسارات المرادة. فقد تتقزم خطة السلام الأمريكية (مبادرة بايدن) إلى مجرد شيء من التهدئة في وتيرة العمليات العسكرية الإسرائيلية ومزيد من المساعدات الإنسانية للقطاع دون إنهاء الحرب وقد تتجه إسرائيل إلى مواجهة عسكرية واسعة مع حزب الله في لبنان.
كذلك، ولأن المقاربة الأمريكية تستند إلى إخراج حماس من معادلة إدارة شؤون غزة في اليوم التالي للحرب والاعتماد على السلطة الفلسطينية في حكم القطاع مع دعم إقليمي ودولي فإن احتمال تحول حماس والفصائل المتحالفة معها إلى قوى مناوئة للخطة الأمريكية وقوى لمقاومة إجراءات التهدئة والأمن يظل حاضرا بقوة. ناهينا عن كون إمكانية اضطلاع السلطة الفلسطينية بمسؤولية حكم وإدارة غزة تحفها العديد من الشكوك بسبب ضعفها الهيكلي وغياب التوافق الوطني الفلسطيني.
وإذا كانت الولايات المتحدة تستطيع التعويل على دعم مصر والدول العربية المعتدلة لخطتها وكذلك دعم تركيا والدعم الأوروبي، إلا أن الشرق الأوسط به من الأطراف غير الراغبة في التسوية السلمية للقضية الفلسطينية ما يقلل من فرص نجاح الخطة الأمريكية. والإشارة هنا هي إلى إيران والحركات المعسكرة القريبة منها في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
أما القوى العظمى الأخرى، تحديدًا الصين وروسيا وهما تتنافسان مع الولايات المتحدة عالميًا وإقليميًا، وتدركان أن حرب غزة قد أظهرت فاعلية واشنطن العسكرية والسياسية وعلى جبهات متعددة مثلما دللت على محدودية تأثير بكين وموسكو، لا تريد لا الصين ولا روسيا إضافة نجاح دبلوماسي إلى سجل واشنطن إن تمكنت خطتها من إنهاء الحرب ودون مشاركة أو تنسيق مع بكين وموسكو (من هنا الاختلافات الراهنة بين الأطراف الثلاثة في مداولات مجلس الأمن بشأن مشروع القرار الأمريكي). تجاهلت الولايات المتحدة الصين وروسيا، وليس امتعاض القوتين ورفضهما للانفرادية الأمريكية (تصريحات فلاديمير بوتين الأخيرة عن خطر السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط حين تغيب القوى الكبرى الأخرى) بغير المتوقع.
أخيرًا، تبالغ إدارة بايدن ولأسباب عديدة أبرزها تحولات الرأي العام العالمي والإقليمي باتجاه رفض احتلال واستيطان إسرائيل ونظام الفصل العنصري الذي تستند إليه والتعاطف الواسع مع فلسطين وحق شعبها في تقرير المصير ورفع الظلم الواقع عليه، تبالغ في تقدير مدى أهمية تطبيع محتمل بين الرياض وتل أبيب على عموم الدول العربية والإسلامية. فلا تطبيع الطرفين سيوفر حلًا سحريًا للقضية الفلسطينية، ولا سيغير من التوجهات العالمية والإقليمية السلبية بعد حرب غزة والكارثة الإنسانية التي تسببت بها، ولا حديث الإدارة الأمريكية عن إطار للتفاوض باتجاه إقامة الدولة الفلسطينية بكافٍ لطمأنة الشعب الفلسطيني والمتعاطفين مع حقه المشروع، فتاريخ القضية الفلسطينية يحفل بأحاديث الإدارات الأمريكية عن أطر التفاوض والتسويات السلمية دون نجاح يذكر.
("الشروق") المصرية