يمثل المؤتمر الذي تستضيفه القاهرة يومي السبت والأحد المقبلين للتباحث بشأن الأزمة السودانية تطورا مهما في هذه المرحلة الدقيقة، والتي تشهد فيها البلاد قتالا ضاريا في أماكن متفرقة، تتجاوز الخرطوم ودارفور، حيث امتدت الاشتباكات إلى الوسط والجنوب الشرقى من البلاد، بعد أن دخلت قوات الدعم السريع ولاية الجزيرة، وأوشكت السيطرة على ولاية سنار المهمة، بما يشير إلى الاقتراب من مشارف شرق السودان، ويعد دخول هذه المنطقة إنذارا بأن الحرب دخلت مرحلة جديدة أشد قسوة.
يعبر ترحيب قوى سوادنية وإقليمية ودولية بمؤتمر القاهرة عن أنه فرصة جيدة يجب استثمارها، وينطوي على أهمية سياسية ملحة لوقف الحرب بين قوات الجيش والدعم السريع، والتي دخلت عامها الثاني من دون أن تظهر مؤشرات واضحة على إمكانية وقفها أو كبح تداعياتها الإقليمية، في ظل تشبث كل طرف بشروطه للعودة إلى طاولة المفاوضات، وعدم إتاحة الفرصة للتوصل إلى قواسم تستند إلى رؤية سوادنية خالصة، بلا إملاءات أو ضغوط من أي طرف خارجي، وهو الموقف المصري الثابت الذي يريد معالجة الأزمة من جذورها وإيجاد حل سياسي شامل لها قريبا.
وتؤكد الدعوة إلى المؤتمر وتوسيع نطاق المشاركة فيه الحاجة، للبحث عن وسائل تؤدي إلى وقف الحرب نهائيا، فمع انسداد المبادرات الإقليمية وتراجع الرهان على نجاح بعضها، تسعى القاهرة إلى عدم إتاحة الفرصة لاستمرار الفراغ السياسي الذي يدفع كل طرف نحو التمسك بمواصلة القتال، أملا في إرهاق الطرف الآخر من خلال تكبيده خسائر فادحة تجبره على الرضوخ والاستسلام.
تشير تطورات المعارك في أماكن عدة إلى أنه مهما يكن حجم الخسائر فلن يستسلم الطرف الأكثر إرهاقا أو هزيمة في الحرب، وربما العكس، إذ سيكون مضطرا للبحث عن قنوات جديدة للحصول على دعم عسكري منها، والانفتاح على جهات خارجية توفر له الأسلحة التي يحتاجها، مقابل تقديم تنازلات إستراتيجية لها، ما يعني تصاعد حدة المعارك لأطول مدة ممكنة، وتداخل أوراقها الداخلية مع الخارجية، فالتصورات العامة والسياقات التي انطلقت منها الحرب حولتها إلى معركة صفرية قهرية، أو بمعنى أدق صعوبة تفاهم الطرفين حول أسس وطنية مشتركة، ما يفرض على من سيجتمعون في القاهرة مراعاة المواقف الحدية لدى الطرفين المتقاتلين.
ومع ذلك فالخبرة التاريخية التي ولدتها حروب سابقة وقعت في السودان، لا تستبعد حدوث تفاهمات سياسية عند لحظة معينة، فغالبية الحروب مرت بفترات صعود وهبوط ثم هدوء، حيث جرى وقفها في النهاية، بعد تقديم تنازلات وتضحيات كبيرة، وما يحتاجه السودان في هذه المرحلة جرأة عالية لمواجهة هذه المشكلة قبل استفحالها وعدم السيطرة على روافدها الإقليمية، لأن النتائج التي سوف تتمخض عنها الحرب سوف تمتد آثارها القاتمة في الداخل والخارج.
تكفي مشاهد الدمار التي تعرض لها السودان وأدت إلى تغيير بعض ملامحه الرئيسية، فمن غادروه قبل نحو عام لن يستطيعوا الوصول إلى منازلهم أو التعرف على المعالم الشهيرة في كثير من المدن المهدمة، فالعشوائية التي خيمت على الحرب غيرت كثيرا في مكونات الدولة وهياكلها الرئيسية، حجرا، وبشرا أيضا، حيث أحدثت تغييرا في الشخصية السودانية، وأحدثت تشويها في توجهات مجموعة كبيرة من المواطنين الذين لا يعرف الكثير منهم أين يقفون سياسيا، ومن يؤيدون، وما هو مصير بلدهم الذي خبروه عبر سنوات طويلة، وهل أصبح اللجوء والنزوح والفرار خيارا دائما؟.
قد تكون هذه المحنة كشفت عن أجمل وأسوأ ما في السودانيين، لكنها لم تغير حبهم لبلدهم وتطلعهم إلى عودة الهدوء والأمن والاستقرار في أقرب وقت، ما يجعل التعامل إيجابيا مع المؤتمر المصري الذى يهدف إلى وضع نواة تساعد على إنهاء هذه المأساة والابتعاد عن التراشقات والمعارك المستعرة بالكلمات على مواقع التواصل الاجتماعي، فالحرب وقعت وكي يتم وقفها من المهم وجود حد أدنى للتوافق حول أسس تحقق هذا الهدف، فكل يوم يمر على السودان تزداد فيه الخسائر البشرية والمادية، وفي العالم ما يكفي من حروب ونزاعات وصراعات، تظهر ما يجرى في السودان الآن هامشيا بالنسبة لها، وما لم ينبع الحل من داخل السودانيين أنفسهم، وبمساعدة قوى إقليمية يهمها أمنهم واستقرارهم، في مقدمتها مصر، فسوف يتواصل الاقتتال الأهلي، ولا أحد يعلم المدى الذي يمكن أن يذهب إليه.
ومن المؤكد أن هناك مصلحة مصرية إستراتيجية لوقف القتال في السودان عاجلا، ومن المؤكد أيضا أن القاهرة بذلت وتبذل جهودا كبيرة لتحقيق هذا الهدف، لأن ما يدور في أراضيه يهدد الأمن القومي من جهة الجنوب مباشرة، واستمرار الكر والفر في ولايات عدة وصعوبة السيطرة على تطوراتها لن يمكن أي قوة من الوصول إلى انتصار حاسم في ميادين القتال المتشابكة، بل يوفر أجواء لنمو الحركات المسلحة والميليشيات والمرتزقة، ويقدم فرصة لتغول الجماعات المتطرفة في السودان، يمكن أن تتلاحم مع انتشارها في غرب وشرق إفريقيا، ويصبح الوسط الإفريقي عاجا بها.
("الأهرام") المصرية