يعيش العالم هذه الأيام بمختلف تياراته واتجاهاته جوا محموما، تطفو على سطحه مصطلحات مظلومة، كأصحاب اليمين، وأصحاب اليسار، والمحافظين والإصلاحيين، والعمال والديمقراطيين، إلى غير ذلك من التقليعات والإبداعات السياسية النشاز.
ويحار المرء في تفسير هذه المفاهيم والمصطلحات التي أضحت شعارات لأحزاب ترفعها من أجل تخدير الجماهير بها.
فمن إيران، إلى بلاد الألمان، ومن المملكة المتحدة إلى فرنسا “المتخذة”، ومن “أفريكا” إلى أمريكا، في كل جزء من هذا الكون، يتعالى أوّار حرب كلامية، حامية الوطيس، يكفر بعض أهلها ببعض، ويلعن بعضهم بعضا، وما ذلك إلا عنوانٌ للإفلاس السياسي، والمتاجرة من أجل الاستحواذ على الكراسي.
حسم الإيرانيون، بعد حشد جماهيري متلاطم، الموقف بانتخاب رئيس أطلقوا عليه صفة الإصلاحي، ونجح البريطانيون في إبراز حزب العمال على حساب المحافظين، ويحاول عبثا ما يوصف باليمين المتطرف العنصري في فرنسا، أن يجد له مكانة في الحلبة السياسية، وسط تنافس كبير، بين الحزب الماكروني الحاكم، وجبهة اليسار الشعبية الصاعدة التي حازت الأغلبية أخيرا.
على أن هذه العناوين، لا تكاد تعني شيئا عند المواطن العادي، قبل الإلقاء بها في معترك التجربة السياسية، غير أن بعض التجارب علّمتنا، أن مصطلح اليمين المتطرف، الذي خبرناه في الكيان الصهيوني، وفي النظام الفرنسي، أفرز مجموعة من المآسي، هي صيغة منتهى الشر، كالعنصرية، والعدوان على الغير، وقتل الأبرياء، والتنكيل بالعزل من الأطفال، والنساء، والشيوخ البرآء.
وما يحدث في غزة من مآسي التدمير، والتهجير، والتقتيل، والتنكيل، هو نذير شؤم لما يقوم به اليمين الصهيوني الفاشي، ضد إخواننا في غزة، والقدس، والضفة الغربية، وكل أنحاء فلسطين.
كما أن ما عانيناه نحن الجزائريين، من أصول اليمين الفرنسي المتطرف، عندما كان يتزعم أهله حملة التعذيب والتنكيل وإتيان كل المنكرات، هو نذير شؤم على ما قد يصدر منه اليوم في عالم السياسة.
وقد دلّ الخطاب العنصري الذي رفعته شعارات هذا اليمين المتعصب، على أنه لا يزال يحمل نفس العداء القديم.
مشعوذو السياسة، هؤلاء الذين كانوا بالأمس ينشرون الحِراب والخراب في الجزائر، هم حملة بذور التهميش والإقصاء اليوم.
إن التحليل الموضوعي لهذا الخطاب الفرنسي النشاز المتطرف الذي يقدّمه هذا اليمين الفرنسي، ويحاول تخدير الجماهير الفرنسية بمادة “الوحدة الوطنية”، إنما يقدم هذا الخطاب السم في العسل.
إن الوحدة الوطنية عند أصحاب اليمين الفرنسي المتطرف تقوم على أساس الفرز العرقي، والثقافي، والإيديولوجي، فهم يركّزون على دم الفصيلة، وأصول الأعراق، ووضاءة اللون، وما عدا ذلك، لا مكان له في الوحدة الوطنية المزعومة.
هل يدرك هؤلاء العنصريون أنه ما كان لهم أن يجدوا مكانا في فرنسا التي يتغنُّون بأمجادها، وأن تحرير الوطن الفرنسي من غزو الأعداء، إنما تحقق بفضل تضحيات الوافدين على فرنسا، من مختلف الأعراق، والألوان، والثقافات؟
إن الاستعمار بجميع فصائله، وأذرعه، وفروعه، إنما هو رجس من عمل الشيطان، أما السياسي الذي يحترم نفسه، ويمارس السياسة بمعناها الصحيح، فهو ذلك الذي يحترم غيره مهما خالفه في الرأي، ولو كان الخلاف جوهريا.
وعجبت لهؤلاء الدخلاء على السياسة، الذين يفتقرون إلى أبسط قواعد التسييس، كيف أنهم بدل أن يركزوا في منهجهم على نزاهة النقد، وحسن التمحيص، نراهم يتجهون في تلبيسهم إلى الأشخاص بالتنقيص.
إن ما حمل العنصريين، في كل من إسرائيل وفرنسا، وألمانيا، وهم ملة واحدة، على إعلان الحرب على الإسلام، والمسلمين على الخصوص، إنما هو جهلهم بمقاصد الإسلام وجواهر قيمه، وخوفهم من القوة الروحية التي يزخر بها، هذه القوى التي تسري في المجتمع سريان التيار الكهربائي في الأسلاك، أو شريان الفكر السليم في القلوب الخاوية، والعقول الغاوية.
ومن كان في شك من ذلك، فليأخذ العبرة من ملحمة غزة، هذه الملحمة، التي أبرزت دور الإسلام في شحذ العزائم، وتحصين الجميع بدءا بذوي التمائم، إلى أصحاب العمائم، في التعامل مع النكبات والعظائم، وهو ما جعل الإقبال على الإسلام يتصاعد في كل أنحاء العالم.
غير أن ما لا يعلمه هؤلاء اليمينيون المتطرفون، هو أن ما بُني على باطل فهو باطل، وأن الإسلام، الذي هو قوة الأمس، واليوم، والغد الفاعلة، ما شادّ أحدا إلا غلبه، والدليل أن المقاومة الفلسطينية، بفضل إيمانها، وتمسكها بمعتقداتها هي الآخذة اليوم “من تل أبيب بالتلابيب” كما يقول الإمام الإبراهيمي.
("الشروق") الجزائرية