تأهبت إسرائيل لإعلان أول علامة نصر واضحة وملموسة في حرب الإبادة والتجويع، التي تشنّها على قطاع غزّة، غير أنّ الرهانات تبددت. بدا الفشل ذريعًا على محيا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهو يتوعد بـ"قتل قيادات حماس.. مهما حدث سنصل إليهم".
كان ذلك اعترافًا بإفلات محمد الضيف، القائد العسكري لـ"كتائب القسام" من الاغتيال. إنه الرجل الذي تُسند إليه المسؤولية الأولى عن عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، التي أذلت الجيش الإسرائيلي وأعادت اعتبار القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني من جديد.
العالم العربي في غيبوبة سياسية ومؤسسات العدالة الدولية معطلة بقوة النفوذ الأمريكي
برمزية "الضيف"، الذي ينحدر من أصول مصرية، فهو صيد ثمين لآلة الحرب الإسرائيلية لبث روح اليأس في صفوف المقاومة الفلسطينية.
أرادت أن تقول: لا معنى للصمود والتضحيات المهولة التي تُبذل.
بذريعة أنّ لديها معلومات استخباراتية عن تواجد "الضيف" بالمكان، استهدفت مخيم المواصي في خان يونس، أحرقت خيامًا وروعت عائلات قيل لها إنّ هذه المنطقة آمنة، أسقطت وأصابت عشرات الشهداء والجرحى، نصفهم من الأطفال والنساء.
لم يكن استهداف المدنيين جديدًا أو مستغربًا. دأب الجيش الإسرائيلي، الذي يصفه نفسه بالادعاء أنه الأكثر أخلاقية بين جيوش العالم، على ارتكاب كافة جرائم الحرب وأكثرها بشاعة وانتهاكًا لأية قيمة إنسانية دون خشية عقاب أو ردع.
العالم العربي في غيبوبة سياسية، ومؤسسات العدالة الدولية معطلة بقوة النفوذ الأمريكي.
يونيو الماضي، ارتكبت القوات الإسرائيلية مجزرة مروعة في مخيم النصيرات بمدينة رفح تحت ذريعة إطلاق سراح أربع رهائن. استشهد ما لا يقل عن 94 فلسطينيًا مدنيًا وروع العالم كله بمشاهدها.
استندت عملية النصيرات على معلومات استخباراتية أمريكية وبريطانية.
الأمر نفسه تكرر في مجزرة المواصي، التي جرت باليوم التالي لإعلان فشل المفاوضات غير المباشرة بين "حماس" وإسرائيل للتوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى والرهائن.
بدا الاتفاق مرجحًا بعدما تنازلت "حماس" عن شرط أن يكون وقف إطلاق النار فوريًا ودائمًا، لكنه ثبت مجددًا أنّ نتنياهو غير مستعد أن يوقف الحرب "حتى يحقق كامل أهدافها".
وضع أربعة شروط جديدة لم تكن واردة ولا متخيّلة، أخطرها: منع تهريب السلاح من مصر واستمرار السيطرة الإسرائيلية على معبر رفح.
كان ذلك استخفافًا بأكبر دولة عربية يستحق الحد الأقصى من الغضب.
كما تضمنت شروطه الجديدة، عكس مسار المفاوضات، منع عودة المسلحين إلى شمال غزّة، بمعنى أن يكون له حق أن يقرر من يعود ومن لا يعود إلى دياره.
الأفدح: إعادة أكبر عدد من المختطفين في المرحلة الأولى من صفقة التبادل، كأنه يختصر الصفقة في المرحلة الأولى وحدها، لا ثانية ولا ثالثة، قبل أن يعود للحرب من جديد بعد أن تكون المقاومة قد تخلت عن أهم أوراقها التفاوضية.
كان ذلك نسفًا متعمدًا لأي اتفاق ممكن وتقويضًا لأية فرص تبقت أمام "جو بايدن" بالانتخابات الرئاسية المقبلة، التي ضاقت بفداحة فرصه في حصد نتائجها.
المقاومة فكرة والفكرة لا تموت
بمفارقات السياسة والحياة، جرت بعد ساعات في بنسلفانيا محاولة اغتيال لحليف نتنياهو الموثوق "دونالد ترامب".
فشلت المحاولة، لكنها سوف تلقي بظلالها الكثيفة على الانتخابات الأمريكية وتتحكم في مسارها.
إذا كانت قد نجحت تلك المحاولة فإنها تطوي صفحة من التاريخ الأمريكي معها.
في حالة "الضيف" القضية تختلف، فالمقاومة فكرة والفكرة لا تموت.
هذا هو درس الفريق عبدالمنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية عقب هزيمة 1967.
بكلمات واضحة طلب من الرئيس جمال عبدالناصر: "أرجو يا سيادة الرئيس ألا تقبل الصلح مع إسرائيل أو استعادة سيناء دون قتال حتى لو عادت كاملة دون شروط، لأنه إذا عادت بدون قتال فإنّ البلد سوف ينهار أخلاقيًا وتسقط القيم فيه".
كان رد عبدالناصر: "لا تقلق فلن يعيدوا سيناء أبدًا دون قتال، أو دون شروط".
بتوصيف الأستاذ محمد حسنين هيكل: "كان رياض هو الرجل الذي توصل إلى أنه إن لم يكن بوسع قواتنا مجاراة إسرائيل في قدرة سلاحها الجوي فإنّ بمقدورها إلغاء أثره وفارق تفوّقه اعتمادًا على الدفاع الجوي وشبكة صواريخ متقدمة، وهو الرجل الذي وضع الخطوط الرئيسية لخطة عبور قناة السويس وتحرير سيناء التي طوّرها الفريق سعد الدين الشاذلي في حرب أكتوبر".
الشهادة بداية جديدة وليست نهاية مطاف
أضفى استشهاده على جبهة القتال الأمامية في قناة السويس يوم ٩ مارس/آذار (١٩٦٩) عليه أسطورة ألهمت أجيالًا متعاقبة.
في جنازته بميدان التحرير، التي ذاب في حشودها "عبدالناصر"، تردد هتاف واحد لخّص الموقف كله: "رياض مامتش والحرب لسه مانتهتش".
الشهادة بداية جديدة وليست نهاية مطاف. هذه حقيقة أكدها استشهاد "رياض"، الذي يمضي على خطاه "الضيف" وكافة القادة الذين يقاتلون كتفًا بكتف مع جنودهم.
(خاص "عروبة 22")