يجلس نتنياهو وحده يوميا؛ يفكك الخريطة العملياتية والسياسية للحرب في غزة، ومن ثم يعيد تركيبها مرارا وتكرارا في براعة قائد سياسي محنك تدرب على امتصاص الأزمات، ليستخرج منها في كل مرة رحيق الانتصار الشخصي على مدى تاريخه السياسي الذي بات متوجا اليوم بالأطول مدة في حكم إسرائيل، متجاوزا الزعيم التاريخي بن جوريون. لذلك هو يدير المأزق المركب في غزة وفق هذا المبدأ، حتى وإن كان المشهد الميداني بحجم قارعة 7 أكتوبر وبرغم وصول تداعياته إلى هذا الحصاد البشري المروع، وقد تمكن نتنياهو حتى الآن من تجاوز كل الثوابت، التي ظل نظراؤه ممن شغلوا مقعد رئاسة الوزراء حريصين على الالتزام بها، أبرزها التورط في حرب طويلة فضلا عن التضحية بمصير المحتجزين الإسرائيليين، خاصة وفيهم عدد غير قليل من العسكريين.
ليس سرا؛ أن نتنياهو شخصيا، هو المتسبب في إفشال كل جولات التفاوض التي تجري من أجل الوصول إلى وقف الحرب، مؤقتا أو نهائيا، رغم وجود ملف الإفراج عن الإسرائيليين المحتجزين في القلب منها، حيث تمكن ببراعة من تجاوز حساسية هذه القضية للداخل الإسرائيلي، واحتمل إلحاح الرأي العام في صبر ومراوغة نادرين. انفلتت ألسنة أعضاء وفود التفاوض الإسرائيلية مؤخرا، وبات حديثهم عن العوائق التي يضعها رئيس الوزراء أمامهم في كل مرة يشدون فيها الرحال إلى القاهرة أو الدوحة، أو حتى الولايات المتحدة، يحمل في طياته كثيرا من الشكوى التي تطورت إلى حد تبادل الاتهامات بينهم وبين رئيس الوزراء على صفحات الإعلام العبري. الأمر في بدايته اقتصر على نزع صلاحيات تلك الوفود رفيعة المستوى، وأجبروا على العودة بعد كل جولة لعرض ما توصلوا إليه على «الكابينت» مجلس الحرب المصغر، قبل أن يقوم نتنياهو بحله لاحقا بعد استقالة بيني جانتس، ليجعل المرجعية مكتبه شخصيا. بعد توبيخ أمريكي وضغط مباشر من وزير الخارجية ومدير CIA اللذين انخرطا في بعض تلك الجولات، تحديدا التي كانت معنية بإنفاذ خطة بايدن، تعدلت نقطة «الصلاحية المنزوعة» لتستبدل بتفجير قضايا يتم تحميل الوفود الإسرائيلية بها، تجهض في كل مرة القدرة على الوصول إلى تسوية تحمل ضمانات مقبولة من الجانبين.
تجاوز نتنياهو في تعاطيه مع آلية التفاوض والوسطاء، كونه يفشل عمدا مشروعا أمريكيا تتبناه الإدارة الأمريكية باسم رئيس الولايات المتحدة، من أجل إنهاء الحرب والتخفف من أعبائها السياسية والأخلاقية التي تطارد بايدن والديمقراطيين، على مضمار سباق الانتخابات الرئاسية وتشوش عليهم بقوة. وتعامل مع الأمر بمبدأ لماذا تصل إلى اتفاق الآن، طالما هناك فرصة للمضي قدما بالمشهد كي يستمر لأشهر أخرى قادمة. ليس الهدف الوحيد لنتنياهو هو البقاء لأطول مدة ممكنة على مقعد رئاسة الوزراء، لكن الأهم بالنسبة له هو أن يحقق خلال هذا المدى الزمني، أكبر قدر من المكاسب التي ستضمن له البقاء على النحو الذي يريده، وهي وحدها ستكون كفيلة بالوصول إلى وضعية «التحصين» الذي يراه ممكنا رغم كل ما يجري. لهذا وكما تمكن من اجتياز معضلة الأسرى الإسرائيليين، للحد الذي بات لا يكترث باتهامات تضحيته بهم، وصار الحديث بشأنهم في مرتبة أدنى في الأهمية من أهداف القتل والانتقام.
اليوم هو يعبر خطوط التماس الأمريكية الحمراء في علاقتها بإسرائيل، بدقة وهدوء من لا يريد تصوير الأمر على أنه عبث فادح في غرفة الإستراتيجية العليا، ويراهن على أن هناك في واشنطن ممن يترددون على تلك الحجرة لديهم الرغبة والقدرة على تبرير وتمرير أفعاله. نشر موقع «والا» العبري مؤخرا؛ أن النقاش الدائر داخل الجيش الإسرائيلي الآن حول «محور فيلاديلفي»، شهد تجاذبا بين رأيين.
مؤيدو الانسحاب من المحور باعتباره سيسهل الوصول إلى صفقة تبادل وإرساء الهدنة، يقولون أن بإمكان القوات الإسرائيلية العودة سريعا في أي وقت حال كان هناك مؤشر على حفر أنفاق. بينما يصر معارضو الانسحاب على أن ذلك لا يمكن تنفيذه في المستقبل القريب، لأن حماس ستستقر في رفح، ولن يكون للجيش الإسرائيلي حرية العمل كتلك الموجودة اليوم. وقد نقل الموقع الإسرائيلي عن الضباط الذين يعارضون آلية نشر مجسات وكاميرات مراقبة متطورة، أنهم يعتبرونها غير كافية ولا تضمن تأمينا كاملا لتلك المنطقة الحساسة، ويتبنون فكرة بقاء قوات إسرائيلية في مدينة رفح بشكل مستدام، بزعم رصد المنازل التي تخرج منها الأنفاق. بالمناسبة هذا الأخير طرح أمريكي وضع على مائدة التفاوض من أجل تجاوز هذه الإشكالية، التي قد تسبب تحفظا وحساسية لدى شركاء الوساطة المصريين بحسب ما ذكرت مصادر أمريكية من فريق التفاوض، فضلا عن أنه يمس رفضا أمريكيا قاطعا لأي شكل من أشكال الاحتلال الإسرائيلي لأي من أراضي قطاع غزة.
الذي لم يذكره الموقع الإسرائيلي؛ أن هذه العقدة الإسرائيلية المستحدثة على الطريق، هي احدى «كرات النار» التي يلقيها نتنياهو داخل أروقة المؤسسة العسكرية، مستهدفا صناعة هذا النوع من الجدل المتوقع، ويستخدم في ذلك بعضا من القادة، وكثيرا من المستويات العسكرية الوسطى التي ستحبذ الدخول في هذا النوع من النقاشات المعطلة، بغرض لفت الأنظار لها في دوائر الإعلام والرأي العام الإسرائيلي. ومما نقله موقع «والا» أيضا ويعكس تلك الصورة بشكل واضح، أن رئيس الأركان هرتسي هاليفي ذكر خلال محادثات مغلقة إنه: «ليس صائبا التنازل في هذه المرحلة، عن أوراق المساومة الأساسية التي لدى إسرائيل في قطاع غزة. وهما بالتأكيد المورد الاستراتيجي محور فيلاديلفي ومعبر رفح. وأنه إذا كنا سنتنازل عن التموضع في محور فيلاديلفي، فإن الأجدى أن يحدث ذلك، في نهاية صفقة تحرير المخطوفين».
خلال أيام سيطير نتنياهو إلى الولايات المتحدة؛ ليلتقي بالقادة الأمريكيين ويلقي خطابه أمام الكونجرس، سيصل وهو حريص على تلمس مدى الضعف الأمريكي ولن يتوانى عن اعتصاره لآخر قطرة ممكنة، خلال حفلات سباق التأييد، ووعود الدعم من كلا المعسكرين، الجمهوري والديمقراطي على السواء.
("الأهرام") المصرية