وقبل أن يمر أسبوع على قرار زيادة المواد البترولية صدمت الحكومة المصرية مواطنيها بقرار آخر رفعت به أسعار تذاكر مترو الإنفاق وقطارات السكة الحديد بنسب تتراوح من 12.5 إلى 33%.
حشرت الحكومة المصرية فقراء البلاد وما تبقى من الطبقة المتوسطة في الزاوية، إذ لم يجد هؤلاء وهؤلاء أي وسيلة للهرب من تسونامي الأسعار الذي لم يقف عند حد تكلفة المواصلات والنقل، فمعظم أسعار السلع والخدمات عاودت الارتفاع في الأيام القليلة الماضية، فيما لم تتحرك الأجور بأي نسبة، وهو ما يعني أنّ البلاد دخلت في موجة جديدة من التضخم لتضاف إلى ما سبقها من موجات.
الحكومة المصرية لم تُقبل على اتخاذ قرارات رفع الأسعار ورفع الدعم عن الخبز إلا تنفيذًا لإملاءات صندوق النقد
القرارن الصادران في أقل من أسبوع، رفعا من منسوب القلق والتوتر عند عموم المصريين، وما زاد من هذا المنسوب ما صرح به رئيس الوزراء مصطفى مدبولي من أنّ حكومته تعتزم رفع أسعار المنتجات البترولية تدريجيًا حتى ديسمبر/كانون الأول 2025.
وفيما بدا أنه اتفاق بين الحكومة المصرية وصندوق النقد على إفقار المصريين وحصارهم وإرغامهم على دفع فاتورة فشل السياسات والتوجهات الاقتصادية المبتعة خلال السنوات الماضية، قال مدبولي إنّ مصر لا يمكنها تحمّل الاستهلاك المتزايد وارتفاع الأسعار العالمية للبترول، في وقت قدّر فيه صندوق النقد الدولي أنّ دعم الوقود في مصر يتعيّن أن ينخفض من 331 مليار جنيه مصري (6.8 مليار دولار) في العام المالي 2023-2024 إلى 245 مليار جنيه (5.1 مليار دولار) في 2024 -2025.
وخلال المؤتمر الصحفي الذي عقده بمقر الحكومة الجديد الفاره بمدينة العلمين الجديدة، أشاد رئيس الوزراء كعادته بقدرة المواطنين على تحمّل الأعباء المتصاعدة، معتبرًا أنّ الاتفاق على برامج مع مؤسسات دولية يُعد "رسالة ثقة عن الدولة"، وشدد على أنّ "صندوق النقد الدولي لا يملي شروطه على مصر وهذا لن يحدث".
الحقيقة أنّ الحكومة المصرية لم تُقبل على اتخاذ قرارات رفع أسعار المحروقات والكهرباء وتذاكر المواصلات العامة ومن قبلها رفع الدعم عن الخبز وزيادة أسعار الكشف والعلاج بالمستشفيات الحكومية، إلا تنفيذًا لإملاءات صندوق النقد وباقي المؤسسات الدولية المالية المقرضة التي لجأت إليها مطلع العام الجاري لإنقاذها من العثرة المالية التي كادت أن تسقطها في هوة الإفلاس.
وإذا كان مدبولي يؤكد أنّ صندوق النقد "لا يملي شروطه على مصر"، فتأجيل المجلس التنفيذي للصندوق إقرار المراجعة الثالثة التي بمقتضاها تسلّمت مصر 820 مليون دولار من 10 يوليو/تموز الماضي إلى 29 من الشهر نفسه لحين صدور قرار رفع أسعار المحروقات، إجراء فضح طبيعة العلاقة بين الحكومة والصندوق الذي أشارت المتحدثة باسمه جولي كوزاك إلى أنّ التأجيل "كان يهدف إلى وضع مصر اللمسات النهائية على بعض التفاصيل المتعلقة بالسياسات".
تماهي الحكومة المصرية مع سياسات صندوق النقد الدولي وتنفيذها لكل شروطه لن يقيلها من عثرتها، وإن كانت تلك السياسات ستخفف الضغوط بشكل مؤقت على الأوضاع النقدية، فإنها ستضع السلطة بكل أجهزتها أمام المجهول، فالغضب الشعبي يتنامى بدرجة تنذر بالخطر، وسؤال "ماذا بعد.. وآخرتها؟"، صار السؤال الأكثر تداولًا بين المواطنين الذين حلّ أكثر من نصفهم تحت خط الفقر بسبب سياسات الحكومة التي سلّمت نفسها للجهات المقرضة قبل 8 سنوات.
الاندفاع في سياسات تخلي الدولة عن أدوارها الاجتماعية قد يصل بالبلاد إلى حد الانفجار الذي يصعب السيطرة عليه
يطرح هذا السؤال مع حسابات من عيّنة "كيف ستمر هذه الأيام؟.. وماذا عن الأيام التالية؟" والتي من المتوقع أن تشهد ارتفاعات أخرى في كل أسعار السلع والخدمات، لا سيما بعد دعوة صندوق النقد إلى تحرير سعر صرف العملة المحلية مجددًا "نظام صرف الجنيه يجب تحريره وألا يبنى على قيود"، ما يعني انخفاضًا جديدًا في قيمة الجنيه وما يتبع ذلك من آثار كارثية.
أكثر خبراء الاقتصاد تفاؤلًا، لا يخفون مخاوفهم من دخول البلاد في موجة من التوترات والاضطربات إثر تصاعد ضغوط أعباء وتكاليف المعيشة على معظم المواطنين، فما حدث في العقد الأخير من اندفاع في سياسات تخلي الدولة عن أدوارها الاجتماعية، وتقتيرها على الملفات الأولى بالرعاية مثل التعليم والصحة والزراعة والصناعة وتبذيرها وإسرافها على مشروعات استفزازية ليس لها مردود في المدى المنظور وإغراقها البلاد في مستنقع الديون، فضلًا عن حصار السياسة وغياب الرقابة على مؤسساتها التنفيذية، كل ذلك ينذر بانفلات زمام الأمور ما قد يصل بالبلاد إلى حد الانفجار الذي يصعب السيطرة عليه.
(خاص "عروبة 22")