هذه التضاريس تبدأ من "الحوثيين" في اليمن مرورًا بالمقاومة الفلسطينية في غزّة، ولا تنتهي بـ"حزب الله" في لبنان. وقد عزّز مناخ إزالة التضاريس استعراض نتنياهو فوق منصّة الأمم المتحدة لخريطة الشرق الأوسط كما يراه، خريطة "إسرائيل الكبرى" التي تلغي تضاريسها ليس كل ما يتعلق بفلسطين فحسب، بل تتغوّل في دول عربية مجاورة.
من رحم هذه الطروحات انطلق "طوفان الأقصى" ليفجّر التناقضات بين مسارات الممرّ وتضاريس "الخريطة"، وليهزّ هيبة الكيان الصهيوني ويفقده هيبة الردع، ويطيح شعار "الجيش الذي لا يُقهر"، وليضع الكيان أمام أزمة تحد وجودية لم يستشعرها منذ أن تمّ تغريسه في فلسطين، فهذا التحدي كشف هشاشة وهزال الكيان الذي هرعت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وملاحقهم إلى مدّه بمضخات "الأوكسجين" لتقيه الانهيار، بعدما انهارت كل سردياته القائمة على القوّة المتغطرسة الغاشمة، وعرّى وجه الغرب القبيح وهو يشيح بنظره عن قرارات "محكمة العدل الدولية" تجاه كيان الإبادة الجماعية.
اغيتال هنية وجّه رسالة غير مشفّرة بقدرة إسرائيل على الوصول لمطلق شخصية في النظام الايراني بدءًا من المرشد
دعمٌ أمريكي أوروبي لا محدود لـ"إسرائيل"، وصمتٌ عربي إلّا من بيانات خجولة محدودة، سمحا لنتنياهو المأزوم داخليًا بإعادة طرح سرديته أمام الكونغرس "حربنا حربكم، عدونا عدوكم، وانتصارنا انتصاركم"، ثم ليستعجل عودته ربطًا بحادثة "مجدل شمس" في الجولان السوري المحتل وليترجم تهديداته بالثأر لضحاياها، باغتيال مزدوج شمل القائد العسكري لـ"حزب الله" فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية، وزعيم حركة "حماس" اسماعيل هنية خلال وجوده في طهران. وبدت إسرائيل عبر الاغتيال المزدوج وقبل ذلك بقصف ميناء الحديدة ردًا على مسيرة "يافا" التي استهدفت تل أبيب، واستهداف مقرات ومستودعات "الحشد الشعبي" في "جرف الصخر"، وكأنّها استعادت صورة الردع التي سبق وهشّمها "الطوفان".
وقد أثار اغتيال هنية وشكر خاصة، حالة من الذهول والصدمة سيّما وأنه أظهر تفوّق "إسرائيل" الاستخباري والتكنولوجي القادر على الوصول لمطلق شخصية في "محور المقاومة". ومن تلك اللحظة تتموضع المنطقة فوق برميل بارود ربطًا بالردّ المرتقب من إيران وفصائل "المحور" على فعلات إسرائيل، وبالتهديدات الإسرائيلية بالتوجه إلى حرب شاملة يدّعي نتنياهو الجاهزية لخوضها على كل الجبهات. وإذ يُقرّ خصوم نتنياهو بقدرته على السير داخل الهاوية وليس على حافتها فقط، فثمّة ما يشي بأنّ خطوات نتنياهو تبدو أكثر جرأة من قيادات المحور المتموضعة في مربع "الحرب النفسية".
وفي اللحظة الاستراتيجية الانتقالية التي يعيشها العالم جرّاء الانتخابات الأمريكية، نجح نتنياهو مرّة أخرى في جرّ الولايات المتحدة بساستها وجنرالاتها وبوارجها وأساطيلها وقواعدها للدفاع عن "إسرائيل"، بل وربما دفعها إلى مشاركته الهجوم على إيران بوصفها زعيمة "محور الإرهاب".
الخطورة في اغتيال هنية، ليس المساس "بشرف وكرامة وهيبة" إيران كما قال زعيم "حزب الله"، إنما في أنّ الاغيتال وجّه رسالة غير مشفّرة لمرشد إيران علي خامنئي وقادتها بقدرة "إسرائيل" على الوصول لمطلق شخصية في النظام الايراني بدءًا من المرشد نفسه.
فخ كبير نُصب لـ"محور المقاومة" بهدف تفكيك بنيته العسكرية بما يسمح بإعادة هندسة تضاريس المنطقة
ومن الطبيعي أن يثير هذا الأمر كل هواجس طهران، ويدفعها إلى الردّ والثأر الذي تعمل على بناء ترسانته السياسية والقانونية عبر الأمم المتحدة واجتماع منظمة التعاون الاسلامي في جدّة، وعلى السعي لاستصدار إدانات استباحة "إسرائيل" لسيادتها وأمنها الداخلي. وبدا واضحًا أنّ الاغتيالات والانفجارات الغامضة التي أصابت إيران خلال السنوات الماضية لم تدفعها إلى مغادرة مربع حرب الظلال مع "إسرائيل" التي غادرت هذا المربع من قبل "طوفان الأقصى" وكانت تحرّض وتعد العدّة للهجوم على طهران ومفاعلاتها النووية الهدف المركزي من التحرّش الإسرائيلي الدائم بها!
اليوم تجد إيران نفسها وأذرعها في المنطقة، وخصوصًا "حزب الله"، الذي للمناسبة لم يتمكن من الثأر الموعود لاغتيال عماد مغنية حتى اللحظة، مدفوعين باتجاه الثأر والردّ والانتقام رغم الحكمة التي يحاولون التحلي والتمظهر بها.
وإذ نورد المثل الذي يقول "الضربة التي تفشّ الخلق تخرّب البيت" فإنّنا نرى خصوصًا أمام تصاعد التهويلات والتهديدات الاسرائيلية والغربية أنّ ثمّة فخًّا كبيرًا نُصب لـ"محور المقاومة" بهدف ضربه وتفكيك بنيته العسكرية بما يسمح بإعادة هندسة تضاريس المنطقة التي تفتح الطريق أمام "الممرّ الاقتصادي" أو توأمه "صفقة القرن" لصاحبها دونالد ترامب فيما لو انتزع كرسي البيت الأبيض.
قرع طبول الحرب الذي يصمّ الآذان، ستفضي نتائجه إلى إعادة صياغة جيواستراتيجية لخطوط النفوذ والهيمنة في المنطقة والعالم، لكن من قال بأنّ ضجيج البوارج والأساطيل العدوة في المخارج والمداخل وحده من يعيد الصياغة الاستراتيجية للمنطقة؟.
ما كشفه زعيم "حزب الله" عن القيادي فؤاد شكر يُذكّر بمسيرة الرجل ودوره في مواجهة "المارينز" إبان دخولها بيروت غداة غزوها من الاحتلال الإسرائيلي، ما دفع وزير الخارجية الأمريكي حينها ألكسندر هيغ إلى وصفها بمدينة الوباء، متجاهلًا أنّ الوباء الحقيقي يتمثّل في كيان الإبادة والاحتلال.
طرفا المعادلة يخوضان حربًا وجودية في ظل تضاؤل فرص إبرام تسوية حقيقية
وإذا كانت حركة "حماس" لم تتأخر في الردّ على اغتيال زعيمها اسماعيل هنية، بانتقال قيادتها من الفنادق إلى الخنادق، واختيار مهندس "طوفان الأقصى" يحيى السنوار زعيمًا لها، فإنّ طرفَيّ المعادلة "إسرائيل" والولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وإيران وفصائل محور المقاومة من جهة ثانية، يخوضان حربًا وجودية مرجّحة في ظل تضاؤل فرص إبرام تسوية حقيقية.
وهنا علينا أن نتوقف أمام المناورات الإيرانية التي أجريت بُعيد وصول أنظمة دفاع جوي حديثة ومتطورة عبر الجسر الجوي الروسي المتقاطر باتجاه إيران التي غادرت معادلة "الصبر الاستراتيجي" إلى مربع "حرب الاستنزاف النفسية" كتمهيد يسبق العاصفة.