خضعت الضفة وغزّة معًا لترتيبات "أوسلو" منذ ١٩٩٣، وإن كانت المقاومة في غزّة قد أجبرت القوات الإسرائيلية على الانسحاب منها في ٢٠٠٥، بل وتفكيك المستوطنات القريبة منها في سابقة هي الأولى من نوعها فتمتعت بوضع مختلف عن الضفة، ثم أضاف فوز "حماس" بالانتخابات التشريعية في ٢٠٠٦ والصدام الدموي مع فتح في ٢٠٠٧ فارقًا نوعيًا آخر، بحيث أصبحت غزّة خاضعة فعليًا لسلطة "حماس" التي لا تؤمن بنهج "أوسلو" أصلًا، ومن ثم عملت على تأسيس بنية تحتية صلبة للمقاومة، الأمر الذي انعكس بوضوح في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على غزّة منذ ٢٠٠٥ وحتى عملية "طوفان الأقصى" التي مثّلت نقطة الذروة في صعود منحنى المقاومة.
منطق التاريخ يقضي بانتصار الشعوب الحتمي في معركة تحررها مهما طال الزمن
وأشارت المقالة أيضًا إلى أنّ شماتة البعض فيما تصوّروا أنه فشل الرهان على أن تلحق الضفة بغزّة في ساحة المقاومة لم يطل أمدها، فقد امتدت إلى الضفة وأخذت في التصاعد، وانتهت المقالة بأنّ الموقف في الضفة مفتوح على كل الاحتمالات، وها نحن نرى الجيش الإسرائيلي يقوم بأوسع عملية عسكرية له بالضفة منذ ٢٠٠٢ بطريقته الهمجية باعتباره "الجيش الأرقى أخلاقًا في العالم"!.
وثمة دلالتان واضحتان لهذه العملية أولاهما أنها دليل أكيد على تصاعد المقاومة في الضفة وشعور إسرائيل بخطورتها، وإلا ما كانت خصصت لهذه العملية فرقة كاملة، ناهيك بالإسناد الجوي، أما الدلالة الثانية المهمّة فهي أنّ المقاومة في الضفة دخلت باقتدار دائرة التأثير في معادلة الصراع، فهي بذلك تفتح جبهة واسعة أمام القوات الإسرائيلية التي يشير بعض التقارير إلى أنّ قيادتها اضطُرت لسحب قوات من غزّة للمشاركة في هذه العملية، علمًا بأنّ وتيرة المقاومة فيها لم تنخفض حتى الآن، وسوف تتباهى القيادة الإسرائيلية بما قتلته واعتقلته من مقاومين وما أحدثته من دمار بعد هذه العملية، غير أن أحدًا من عناصرها لا يبدو أنه سيفهم يومًا منطق التاريخ الذي يقضي بانتصار الشعوب الحتمي في معركة تحررها مهما طال الزمن، والذي يجعل من أي انتصار للمستعمر (بكسر الميم) حقيقة مؤقتة لا بد وأن يجرفها تيار التاريخ.
ولن أسوق أمثلة من حركات التحرر الوطني العظيمة في الهند الصينية والجزائر وجنوب اليمن وجنوب أفريقيا في النصف الثاني من القرن الماضي، ولا من مقاومة شعوب ڤيتنام والعراق وأفغانستان للأمريكيين في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، وفي العقدين الأول والثاني من القرن الحالي، ولكني أستشهد بصمود الشعب الفلسطيني ذاته ومقاومته للمشروع الصهيوني لأكثر من قرن وربع قرن حتى الآن رغم الوحشية الهائلة التي وظفها قادة هذا المشروع عبر الزمن ضد هذا الشعب، ومع ذلك فإنّ مقاومته قد ظهرت وتبلورت كما حدث في كافة حالات الاستعمار، على الرغم من خصوصية الاستعمار الصهيوني لفلسطين، بل إنني في سياق العملية الإسرائيلية الجارية في الضفة حين كتابة هذه السطور أكتفي بالتذكير بعملية "السور الواقي" التي قامت بها إسرائيل في الضفة في ٢٠٠٢ ردًا على العملية الانتحارية الشهيرة في فندق بارك في نتانيا غرب طولكرم، وذلك بهدف القضاء نهائيًا على "انتفاضة الأقصى"، وأدت هذه العملية كما نذكر إلى استشهاد عشرات الفلسطينيين وإصابة المئات، وحصار ياسر عرفات وبناء الجدار العازل، فماذا كانت نتيجة هذا كله وقد مرّ على هذه العملية قرابة ربع القرن؟ كانت النتيجة إجبار القوات الإسرائيلية على الانسحاب من غزّة بعد ٣ سنوات، واستمرار المقاومة وتصاعدها حتى وصلت لذروتها بعملية "طوفان الأقصى" وتداعياتها.
المقاومة وصمودها هي اللغة الوحيدة التي تفهمها إسرائيل
غير أنّ المعضلة أنّ العقلية الاستعمارية لا تفهم منطق التاريخ، وتصر حتى آخر لحظة على الاعتقاد بإمكان استمرار الحالة الاستعمارية حتى بعد أن تصبح مفارقة تاريخية، وبالتالي فهي لا تُسلّم إلا بمنطق القوة، وهكذا انسحبت إسرائيل من سيناء بعد حرب ١٩٧٣، ومن لبنان بعد غزوه في ١٩٨٢، ومن شريطه الجنوبي المحتل في ٢٠٠٠ بفضل المقاومة في الحالتين، ومن غزّة في ٢٠٠٥ للسبب نفسه، ولذلك فإنّ المقاومة وصمودها هي اللغة الوحيدة التي تفهمها إسرائيل، ولذلك أرجو أن يكون بعض التقارير الواردة من الضفة عن إجراءات تُتَّخذ ضد عناصرها غير صحيح، لأنه لو كان صحيحًا فهو يعني فقدانًا تامًا للبوصلة، وتأجيلًا ليوم حصاد ثمار التضحيات التي قدّمها الشعب الفلسطيني في غزّة والضفة معًا.
(خاص "عروبة 22")