من المسلم به، أن تطورات الأحداث على جبهة لبنان في الشمال، فرضت تراجعاً مؤكداً على مسار الحرب على غزة في الجنوب، بقدر ما دفعت الأوضاع نحو حرب شاملة، وإن كان التصعيد المتواصل حالياً لا يزال تحت سقف هذه الحرب. صحيح أن الربط بين جبهتي الشمال والجنوب كان يستهدف في الأصل التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة، لكنه كان في مضمونه يحمل أبعاداً أخرى يمكن اختزالها، ليس فقط في فصل الجبهتين عن بعضهما، وإنما في تصفية الحسابات القديمة بين إسرائيل و"حزب الله"، بما في ذلك كسر التوازنات التي نشأت بعد حرب يوليو/تموز عام 2006.
لا يمكن في هذا السياق، استبعاد الحسابات السياسية والشخصية لنتنياهو وحكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، والتي بات يدركها القاصي والداني، ومصلحة هؤلاء في استمرار التصعيد، لأسباب تكتيكية واستراتيجية. ففي المقام الأول تعتقد إسرائيل أن الربط بين جبهتي لبنان وغزة، يحول دون إتمام الهدنة المجمدة منذ أسابيع، وفق الشروط الإسرائيلية، ويحول دون تنفيذ الخطط العسكرية، لفصل شمال قطاع غزة عن جنوبه، واعتبار الشمال منطقة عسكرية مغلقة، وفق ما يسمى "خطة الجنرالات" لمحاصرة المقاتلين الفلسطينيين في شمال القطاع ووضعهم أمام خيار الاستسلام أو الموت، بغض النظر عن مصير الرهائن الذين لم يدخلوا قط في حسابات نتنياهو.
بهذا المعنى، يحاول نتنياهو المناورة، عبر فتح جبهة الشمال لإطالة أمد الحرب، تحت ستار أن فتح هذه الجبهة والتصعيد العسكري المتواصل، هو الذي سيدفع في نهاية المطاف إلى قطع العلاقة بين الجبهتين وفتح الطريق أمام صفقة تبادل، تسمح بتنفيذ مخططاته في قطاع غزة، كما أبلغ وزراءه في المجلس الأمني المصغر، وفق وسائل الإعلام الإسرائيلية.
وحقيقة الأمر أن نتنياهو يدرك أن هذا الأمر لن يتحقق، وأن مناورته الحقيقية تستهدف تمضية الوقت بانتظار تحقيق رهانه على عودة ترامب إلى البيت الأبيض، حيث سيشعر عندئذ بأنه طليق اليدين في الذهاب بعيداً في التعامل مع المنطقة، حتى لو أدى ذلك إلى حرب إقليمية شاملة.
في اللحظة الراهنة، يستطيع نتنياهو المضي قدماً في تكتيكاته من دون أي مساءلة، مستفيداً من ضعف الإدارة الأمريكية، التي تضع الانتخابات فوق أي اعتبار، لكنها في نفس الوقت لا تريد التورط في حرب يسعى نتنياهو إلى جرها إليها عشية هذه الانتخابات، ما لم تحدث مفاجآت غير محسوبة.
أما بالنسبة لهدنة غزة، فقد نقل عن مسؤولين في البيت الأبيض أن بايدن بدأ يدرك أن فرص التوصل إلى صفقة تبادل خلال الأسابيع المتبقية من ولايته باتت شبه معدومة، ولم يعد بالإمكان الاستفادة من إبرام صفقة كهذه في سياق الحملة الانتخابية. وتتذرع هذه الإدارة بأنها لم تتمكن حتى الآن من تقديم "خطة وساطة" لوقف نهائي لإطلاق النار في غزة، لأنه لا توجد فرصة لدراستها من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
(الخليج الإماراتية)