تشهد الحروب الحديثة تحولات غير مسبوقة لم تعد فيها القوة النارية والتفوق العسكري التقليدي المحددان الوحيدان للنصر أو الهزيمة، ففي عالم تسيطر عليه التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، تحولت ميادين المعارك إلى فضاءات خفية يديرها العقل الإلكتروني والتقنيات الذكية.آخر هذه التحولات تجلت في اعتداء غير تقليدي شهدته الساحة اللبنانية، حينما نفّذ الكيان الصهيوني عملية نوعية في 17 سبتمبر 2024، استهدفت بتفجيرات متزامنة أجهزة الاتصالات المفخخة التي كان يحملها أكثر من 4000 عنصر من "حزب الله"، مما فتح الباب واسعاً للتساؤل عن السباق المحموم بين "دهاء" العقل الإنساني ووحشية "الذكاء" الاصطناعي!
فإضافة الى أن هذا الحدث الأمني - غير المسبوق في التاريخ بحجمه وربما بطريقة تنفيذه - شكّل "مجزرة" حقيقية وضربة قوية لـ"حزب الله" باعتراف أمينه العام، فإنه نقل أساليب الحرب من النمط التقليدي الى حرب تعتمد بشكل رئيس على دقة العمل المخابراتي، وذكاء التكنولوجيا الحديثة، وارتكاز القوى الجوية بشكل رئيس على المسيرات المتطورة. فالذكاء الاصطناعي أصبح اليوم جزءًا لا يتجزأ من الحروب الحديثة، حيث يتم استخدامه لجمع وتحليل البيانات الضخمة وتقديم اقتراحات فعالة للقادة وتوجيه القرارات الحربية بشكل أسرع وأكثر دقة مما يمكن للبشر تحقيقه.
وقد أدى هذا النمط من الذكاء الآلي في الحرب بين روسيا وأوكرانيا دوراً بارزاً وملموساً في إدارة المعارك وتوجيه العمليات الميدانية وتحديد الأهداف ذات الأولوية العالية، مثل قواعد الإمدادات اللوجستية أو مواقع العدو الاستراتيجية، ومن ثم في توجيه الضربات عن بعد بشكل دقيق وفاعل. يترافق ذلك مع ما قدمته المسيرات المطورة والحديثة من مساهمات فاعلة من خلال مقدرتها على التوغل الخفي في عمق أراضي العدو وتنفيذ عمليات دقيقة بأقل خسائر بشرية ودون الحاجة إلى أي تدخل بشري مباشر، مع ما يسبق ذلك من عمليات استطلاعية وجمع المعلومات المخابراتية.
من ناحية أخرى، لا يمكن للحديث عن الحروب الحديثة أن يغفل عن التطرق للدور المحوري الذي يؤديه العمل المخابراتي، إذ باتت المعلومات هي الأساس الذي تقوم عليه معظم الاستراتيجيات العسكرية، حيث تعمل أجهزة الاستخبارات ليل نهار على جمع وتحليل المعلومات، باستخدام التكنولوجيا مثل الأقمار الصناعية طوراً، أو من خلال الجواسيس والعملاء على الأرض أطواراً أخرى، إضافة الى القيام بعمليات حروب نفسية تؤثر على معنويات العدو وزعزعة استقرار المجتمعات المستهدفة.
وفي السياق، شكل العمل الاستخباراتي بما يشمل اختراق منظومة التحكم والاتصال أحد الأعمدة الأساسية التي اعتمد عليها الكيان الصهيوني في تنفيذ عملياته العسكرية ضد "حزب الله"، مستنداً في ذلك إلى شبكة واسعة من العملاء على الأرض، بالإضافة إلى أدوات التكنولوجيا المتقدمة في جمع وتحليل البيانات. ومن المعروف لدى الجميع مدى التطور التكنولوجي والفني والبشري الذي وصلت اليه أجهزة الاستخبارات الصهيونية، إذ تعتبر أجهزة "الموساد" و"الشاباك" و"أمان" من أقوى الأجهزة المخابراتية في العالم وميزانيتها من الأضخم، وهي تعمل بشكل مكثف على مراقبة نشاطات وميدان عمل كل من يعاديها من دول ومجموعات، وتعتمد على استخدام التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي في التنصت على الاتصالات، ومراقبة التحركات، وتحليل البيانات، ومطابقة بصمات الوجوه والصوت وتعقب الأفراد والآليات والأدوات العسكرية عبر الأقمار الصناعية.
من الواضح تماماً أن الحروب المستقبلية ستعتمد بشكل متزايد على التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي، حيث ستصبح المواجهات النارية التقليدية أقل اعتماداً لصالح التركيز على أساليب الحروب "الذكية" التي تستخدم أدوات متطورة مثل الروبوتات المسلحة، والأنظمة الدفاعية والصاروخية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، والدرونز القتالية ذات التحكم الذاتي، والاختراق السيبراني لتعطيل شبكات الاتصال، وأنظمة الذكاء الاصطناعي القادرة على اتخاذ قرارات حربية دون تدخل بشري، أو على الأقل بتدخل محدود، مما غيّر وسيغير مفهوم القيادة والسيطرة في الحروب.
هذه التحولات تفتح الباب أمام تطوير أسلحة أكثر تقدماً وتعقيداً، مما يجعل من الضروري على الدول- ولاسيما المقتدرة مادياً منها- سرعة الاستثمار في التقنيات الدفاعية لحماية نفسها من أي تهديدات قد تواجهها، إلى جانب أهمية تكثيف التعاون الاستخباراتي مع حلفاء دوليين لضمان التفوق في ميدان الحروب الحديثة، مع التركيز على تطوير كوادر متخصصة لضمان الاستعداد لأي تهديدات قد تنشأ في المستقبل.
وفي السياق تتصدر الولايات المتحدة والصين وروسيا قائمة الدول الأكثر استثماراً في هذا القطاع، حيث خصصت الولايات المتحدة وحدها ما يقارب 877 مليار دولار لميزانية الدفاع لعام 2023، مع تركيز متزايد على التقنيات الذكي، في حين أن الصين قد رفعت ميزانيتها الدفاعية إلى 224 مليار دولار في العام ذاته، مع تسليط الضوء على تطوير الطائرات المسيّرة وأنظمة الذكاء الاصطناعي. تشير تقديرات مؤسسة Grand View Research إلى أن حجم السوق العالمي لتقنيات الدفاع الذكية كان يبلغ نحو 67 مليار دولار في عام 2021، ومن المتوقع أن يصل إلى 171 مليار دولار بحلول عام 2030 بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ حوالي 10.2%.
وعلى صعيد تطوير الطائرات بدون طيار، تعتبر الولايات المتحدة وتركيا من أكبر المطورين لهذه الأنظمة، وتشير التقارير إلى أن تركيا حققت مبيعات قياسية من طائراتها Bayraktar TB2 إلى عدة دول، بما في ذلك دول في الشرق الأوسط وإفريقيا، بقيمة تجاوزت مليار دولار عام 2022. وبحسب التقارير الحديثة، فإن حجم الإنفاق العالمي على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي في القطاع العسكري شهد نمواً متسارعاً خلال عامي 2023 و2024، إذ تشير الأرقام الى بلوغه 18 مليار دولار في عام 2023، مع توقعات بارتفاعه إلى 20-22 مليار دولار في نهاية عام 2024.
ويبقى السؤال: هل ستكون الدول العربية قادرة على مجاراة هذا السباق المحموم، أم ستجد نفسها خارج إطار المنافسة في مواجهة قوى عالمية لا تعرف سوى لغة الذكاء الاصطناعي؟ الإجابة تظل مرهونة بما ستتخذه الأجيال القادمة من خطوات جادة تنقلها من نمط الاستسلام للألعاب الالكترونية الى شغف التعامل مع الأنظمة الذكية!
(الجريدة الكويتية)