تحت الظلال الثقيلة لهذه الأجواء، تحل علينا ذكرى مرور 51 عامًا على حرب أكتوبر المجيدة، لكن رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي لم يشأ، أن تمر هذه الذكرى من دون تلويث المناسبة بتصريحات بدت مثيرة للاستهجان، إذ قال في سياق كلام يخاصم أصولًا يراعيها دائمًا أي رجل دولة في العالم، أنّ حكومته "لن تنزلق إلى صراعات تجري حاليًا في المنطقة لأنّ الدولة المصرية ما زالت تعاني من مشاكل كثيرة منذ حرب العام 1967..".
أراد مدبولي إزاحة مسؤولية الكارثة الاقتصادية والاجتماعية عن نظامه وإلقاءها على حرب جرت قبل 57 سنة!
طبعًا هو لم يحدد صراحة طبيعة هذه المشاكل، لكن سياق الحديث الذي أتت العبارة المذكورة ضمنه، يشير إلى أنّ ما يقصده هو اختراع علاقة سببية مزعومة بين حرب يونيو/حزيران 1967 وبين الكارثة الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالمجتمع المصري هذه الأيام، بمعنى أنّ سيادته يحيل أسباب الكارثة الحالية، ليس للسياسات الهوجاء التي تتبعها حكومته على مدى السنوات العشر الأخيرة، وإنما أراد بهذا الكلام إزاحة المسؤولية عن نظامه وإلقاءها على حرب جرت قبل 57 سنة أعقبتها حرب أخرى حققنا فيها النصر!!
بعد هذا الكلام، ربما من المفيد إنعاش الذاكرة العامة لأبناء أمّتنا بحقائق دامغة تشي بأنّ الزعيم الراحل جمال عبد الناصر تعامل بكفاءة وإخلاص شديدين مع الآثار الرهيبة التي خَلَفتها هزيمة ثقيلة، لم يجبن ولا حاول أبدًا التملص من مسؤوليته الكاملة عنها، بل سارع بالاعتراف بها علنًا وقرر التنحي عن السلطة، لكن الرجل اضطر للتراجع بأمر الشعب بعد خروج الملايين إلى الشوارع، معلنين رفضهم القاطع التسليم بالهزيمة وإصرارهم على العمل فورًا لإنجاز مهمة إعادة البناء استعدادًا لفصل آخر من الحرب يتحقق فيه الانتصار.
حارب عبد الناصر بعد الهزيمة مع شعبه بلا هوادة على جبهتين اثنتين، أولهما؛ إعادة بناء الجيش بعدما فقد نحو 80 في المائة من سلاحه وتجهيزاته، وقد تمكن بسرعة من لملمة شتاته وإعادة تأهيله وتدريب رجاله بعدما استبدل قادة جددًا أكثر تعليمًا وجدية بالقيادة القديمة المترهلة، ومن ثم راح الجيش يتعافى رويدًا رويدًا حتى استعاد قدرته على مجابهة العدو، وفورًا دخل في مرحلة الصمود ثم "الدفاع النشط"، وانخرط باقتدار في "حرب استنزاف" العدو، هذه الحرب البطولية النبيلة التي اختلطت فيها دماء الجنود مع دماء آلاف العمال المصريين البسطاء الذين بنوا حائط الصواريخ العظيم على طول الجبهة تحت قصف وحشي مسعور، غير أنّ الالتحام والصمود الرائعين بين الشعب وجيشه أفضيا أخيرًا إلى النجاح وبناء حائط صد يحمي سماء البلاد من غارات العمق التي كثفها العدو مستخدمًا أحدث ما أنتجته الصناعات الحربية الأمريكية.. لقد كانت هذه الحرب العظيمة بمثابة تمهيد وتدريب بالنار والدم على معركة النصر في أكتوبر/تشرين الأول 1973.
تبقى الجبهة الثانية التي حارب عليها عبد الناصر بكل جدية واقتدار، جبهة الاقتصاد والاجتماع. فرغم الخسائر الرهيبة التي مُني بها الاقتصاد المصري كأثر مباشر للهزيمة، إذ فقدت مصر كل دخل قناة السويس، وكل الثروات الطبيعية في شبه جزيرة سيناء المحتلة، ومعظم الدخل من العملات الصعبة التي تجنيها صناعة السياحة، فضلًا عن تدمير مدن قناة السويس الثلاث بما فيها من منشأت صناعية مهمة، ويضاف لكل ذلك الكلفة الهائلة لإعادة بناء القوات المسلحة، استطاع عبد الناصر أنّ يحقق صمودًا اقتصاديًا مثيرًا للإعجاب، يكفي للدلالة عليه أنه رحل بينما إجمالي ديون مصر الخارجية لا يتجاوز مليار دولار، وحتى يوم رحيله بقيت نسب التضخم وارتفاع الأسعار منخفضة ومحدودة جدًا.
هل هناك أي وجه للمقارنة بين ما فعله نظام عبد الناصر والكوارث التي يصنعها الآن المهزومون؟
ثانيًا؛ على الصعيد الاجتماعي تمكن من الحفاظ على كل المكاسب التي حققتها ثورة يوليو للأغلبية الساحقة من الشعب، فلم ينكص أو يتراجع عن سياساته المنحازة بحزم للأغلبية الساحقة من البسطاء والفقراء، وحافظ على مستوى مقبول من قدرة المواطنين على الفوز بكل السلع والخدمات الضرورية، وبقيت مجانية التعليم في كل المراحل، كما حافظ على التزام الدولة بتشغيل كل الخريجين، واستمرت معدلات البطالة منخفضة، كما تابع مسيرة الإصلاحات الاجتماعية المهمة، حتى أنه في العام 1969 أصدر القانون الثالث للإصلاح الزراعي الذي جعل سقف الملكية لا يتعدى 50 فدانًا للفرد الواحد و100 فدان للأسرة.
هذا بعض مما جرى بعد الهزيمة القديمة.. فهل هناك أي وجه للمقارنة بين ما فعله نظام عبد الناصر آنذاك والكوارث التي يصنعها الآن المهزومون على كل الأصعدة؟!.
(خاص "عروبة 22")