تأسست المبادئ التي أدرجتها اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 على خلفية الحفاظ على السمة الآدمية للبشر، وهي كَفَلت حق الناس في السلامة الجسدية والحياة، خصوصاً العاجزين منهم عن القتال، أو الذين ليسوا أطرافاً في النزاعات المسلحة، بصرف النظر عن انتمائهم الجنسي أو العرقي أو القومي أو الديني.والاتفاقيات أكدت حق المدنيين في الحماية إبان الحروب، كما أعطت ضمانات للطواقم الطبية وللصليب والهلال الأحمر الدوليين للوصول بأمان إلى ساحات النزاع للقيام بواجبهم الإنساني والإنقاذي المُجرّد.
ونصّت الاتفاقية الثالثة على حقوقٍ لأسرى الحروب، تكفل معاملتهم برأفة وتحفظ لهم سلامتهم الجسدية والنفسية، وحقهم في إجراء عملية التبادل عند انتهاء الحرب. وتضمنت البروتوكولات المُلحقة بالاتفاقيات، والتي أقرّت في عام 1977، مجموعة من الضوابط التي شملت حماية الأماكن الأثرية، وملاحقة مجرمي الحروب حتى ولو كانوا غير مُنضوين في جيوش نظامية.
تجاوزات الحرب العدوانية التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين واللبنانيين منذ ما يزيد على العام، كثيرة، ولا تكاد تُحصى، وينطبق على العديد منها ما ينطبق على توصيف "الجرائم ضد الإنسانية" كون الارتكابات تطول الأطفال والنساء والمدنيين العُزل وغير المشتركين في العمليات الحربية، بينما القانون الدولي، خصوصاً ميثاق الأمم المتحدة، لا يعطي الحق في القيام بأعمال الدفاع عن النفس لقوى مُحتلة لأراضي الغير، وهو ما ينطبق على قوات الاحتلال الإسرائيلي، وفقاً لما جاء في قرار مجلس الأمن رقم 242/1967، واستناداً إلى قرار محكمة العدل الدولية الأخير والصادر في 19 تموز/يوليو 2024.
إضافة إلى الارتكابات التي قامت بها القوات الإسرائيلية ضد المدنيين والمؤسسات الصحية والإنسانية في قطاع غزة، فقد نفذت مجازر موصوفة طالت منازل المدنيين العُزل في لبنان، بحجة أنها تُستعمل لأغراض عسكرية، من دون أن تقدّم دليلاً على هذا التوصيف. وقد سارع الناطق باسم مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان جيريمي لورنس إلى طلب تحقيق دولي خاص بالمجزرة التي ارتكبتها إسرائيل ضد المدنيين في بلدة أيطو في قضاء زغرتا بشمال لبنان بتاريخ 14/10/2024، وذهب ضحيتها أكثر من 23 مواطناً من النازحين، أكثرهم من الأطفال والنساء، وسقط فيها عدد من الجرحى، من دون أي دليل على وجود أهداف عسكرية في الموقع الذي قصفته الطائرات الإسرائيلية.
وما حصل يوم 16 تشرين الأول/أكتوبر 2024 خلال القصف الذي تعرضت له مدينة النبطية في جنوب لبنان، وشمل تدمير مبنى البلدية، حيث كانت توجد الطواقم التي تقدّم الإغاثة والمساعدة للمدنيين، وسقط من جراء العدوان أكثر من 16 ضحية بينهم رئيس البلدية، وأصيب 45 شخصاً من المدنيين والمُسعفين بجروح، يعتبر جريمة ضد الإنسانية بكل المقاييس، وسبق ذلك تدمير السوق الشعبي الأثري في المدينة، والذي يتجاوز عمره 400 سنة.
والتبريرات التي تطلقها القوات الإسرائيلية عن وجود منشآت عسكرية في هذه الأماكن واهية وغير صحيحة، ولو كان معها أي دليل أو معلومات حول هذه الادعاءات، لكان عليها أن تطالب بكشف ميداني من قوات الأمم المتحدة الموجودة في المنطقة، للتحقق من المعلومات، قبل أن تُقدم على تنفيذ جريمتها الشنيعة.
وهول هذه الجريمة التي ارتكبت ضد بلدية النبطية كبيرٌ جداً، فإضافة إلى الضحايا من المدنيين والمسؤولين الرسميين، هناك إتلاف لآلاف الوثائق الرسمية التي تتعلق بالمواطنين وممتلكاتهم وقيودهم، وهذه في حدّ ذاتها جريمة دولية، كما صنفتها اتفاقيات جنيف الرابعة لعام 1949.
عملت إسرائيل، منذ بداية العدوان، على تقويض الجهود الدولية الإنسانية التي تساعد المدنيين على تجاوز المحنة التي حلَّت بهم. وقد شنّ المسؤولون الإسرائيليون حملة شعواء وغير مبررة ضد وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، وتمّ قصف مقارها ومستودعاتها في قطاع غزة. وحكومة إسرائيل تعرّضت للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أكثر من مرة، واعتبرته شخصاً غير مرغوب فيه، في سابقة لم تحصل بحق أكبر مسؤول أُممي من قبل، وكل ذلك لأنه تجرّأ على توصيف بعض التجاوزات الإسرائيلية، واعتبرها انتهاكاً للقانون الدولي.
وما يُثير الريبة من تصرفات قوات الاحتلال إبان عدوانها الأخير على لبنان، هو ما حصل من اقتحامٍ لبعض مراكز قوات اليونيفيل، وإطلاق النار على أفرادٍ من هذه القوات المُكلفة بموجب القرار الدولي رقم 1701 حفظ الأمن في الجنوب ومراقبة الانتهاكات التي تستهدف السلام في المنطقة.
ولم يكتفِ جيش الاحتلال بهذا العدوان، بل طلب من هذه القوات إخلاء مراكزها، بحججٍ واهية وغير صحيحة على الإطلاق، بينما نوايا إسرائيل واضحة من وراء هذا الطلب غير المشروع، وغير المُبرّر، وهي إبعاد الشهود عن الجرائم التي يرتكبها جيشها بحق المدنيين، وتقويض دور الهيئات الدولية التي تساعد على حفظ السلام. وإسرائيل لا يبدو أنها ترغب في السلام.
المجتمع الدولي، كما محكمة الجنايات الدولية الدائمة، مطالب بوضع حد لهذه الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي الإنساني. وتجاهل هذه الوقائع الشنيعة من قبل الدول الكبرى التي تدعم إسرائيل بالمال والسلاح، سيؤدي إلى تعميم الفوضى في المنطقة، وسيشجع القوى التي تمارس الإرهاب والتي لا تُريد الانتظام، على المزيد من التمرُّد والإفلات من الضوابط والعقاب.
(الخليج الإماراتية)