تعود فكره التحول للدعم النقدي ومنح المواطن مبلغًا ماليًا بديلًا عن صرف بعض السلع المدعومة من خلال ما عُرف بـ"بطاقة التموين"، إلى حكومات ما قبل ثورة 2011، وطُرحت الفكرة حينها وتم الترويج لها من خلال مجموعة الوزراء وكبار المسؤولين في "الحزب الوطني" المحسوبين على جمال مبارك أمين سياسات الحزب ونجل رئيس الجمهورية حينها.
وأصبحت قضية التحول للدعم النقدي من بين القضايا والأوراق التي يتكرر طرحها في مؤتمرات الحزب الوطني، وجرى التبشير لهذا التحول في وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة الحزب، لكن المجموعة تراجعت عن تطبيقها خوفًا من ردود الفعل الشعبية. إذ أوضحت عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الأسبق الدكتورة عالية المهدي أنّ حكومة ما قبل ثورة يناير/كانون الثاني 2011 تراجعت عن تطبيق الدعم النقدي عقب إجراء دراسة، استندت إلى استطلاع رأي أجري عام 2006 عن المفاضلة بين الدعم النقدي والعيني، كشف أنّ 85% من المصريين يفضلون الدعم العيني. وقالت المهدي فى لقاء أكاديمي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة عُقد منذ أيام لمناقشة توجه الحكومة نحو الدعم النقدي: "سألنهم عن سر تمسكهم بالدعم العيني (السلعي) فأجابوا لأنّ الأسعار سترتفع".
الخبير الاقتصادي الدكتور هاني جنينة، أكد لـ"عروبة 22" أنّ القرار يحتاج إلى المزيد من التمهل، لأنّ المواطن اعتاد على نوعية معينة من المنتجات تكفي احتياجاته الشهرية هو وأسرته، وبالتالي حينما يصل إليه الدعم في هيئة أموال لن يشعر بقيمتها وسوف تُنفق على بدائل، وهو ما سيؤدي إلى أنّ العديد من الأسر لن تحصل على السلع الأساسية التي تلبي احتياجاتها اليومية كل شهر.
واقترح جنينة أن يتم البحث عن بدائل أخرى أفضل تضمن الحفاظ على المنتجات من خلال وضع ضوابط أكثر إحكامًا وصرامة على تجار السلع التموينية بدلًا من التأثير على حياة المواطنين التي اعتادوا عليها بأسلوب دعم اجتماعي يوفر لهم معيشة مستقرة، محذرًا من تطبيق الدعم النقدي في ظل الارتفاع المتكرر في أسعار السلع، وعدم قدرة الحكومة على تحقيق الانضباط في الأسواق.
وتكشف المقارنة بين أسعار السلع الأساسية داخل منظومة الدعم العيني (بطاقات التموين) وخارجها عن انخفاض حاد في القيمة الحقيقة للدعم المقدّم للمواطن حال التحول إلى الدعم النقدي، لأن أسعار السلع في الأسواق تزيد عن نظيرتها في بطاقات التموين بـ40% في المتوسط، ويبقى دومًا الهلع من التزايد المتكرر والجنوني غير المنضبط في أسعار السلع الأساسية من زيت وأرز وألبان خاصة مع انخفاض قيمة العملة المحلية.
وإذا كان الخبير الاقتصادي الدكتور مدحت نافع يؤيد فكرة الدعم النقدي ويرى أنها أفضل من الدعم العيني لأنه يقضي على مافيا السوق السوداء وتسرب السلع المدعمة إلى التجار، إلا أنه شدد على ضرورة أن تراعي الحكومة أن تكون قيمة الدعم المادية هي قيمة دعم المنتجات نفسها حتى يتمكن المواطن من شرائها بعيدًا عن استغلال التجار.
بينما يشدد الخبير الاقتصادي الدكتور وائل النحاس لـ"عروبة 22" على أنّ "هذا النوع من القرارات يُعتبر سلاحًا ذا حدين، له جوانب سلبية وأخرى إيجابية، فمن ناحية تحاول الحكومة التوصل إلى حلول بديلة للقضاء على السوق السوداء ومافيا السلع التموينية تحديدًا بشكل كامل، إلا أنّ الأزمة تكمن في أنّ وجهة الإنفاق تتغيّر حينما تكون الأموال في يد المواطن وبالتالي يمكن أن يحرم رب المنزل أسرته من السلع الناقصة لديهم في مقابل تحقيق مصالح أخرى له.
وتؤيد دراسات عديدة أجريت في بعض دول أمريكا اللاتنية، وتحديدًا المكسيك والبرازيل، وجهة نظر النحاس، بحيث كشفت الدراسات أنّ رب الأسرة هناك يستخدم الدعم النقدي لشراء السجائر أو الخمور مما يحرم الأطفال من الاستفادة من الدعم الذي تقدمه الحكومات.
ويتكرر الأمر في بعض الدول الأوروبية حيث تقصر الدعم النقدي للأطفال على شراء سلع بعينها مثل الألبان أو البروتين أو الشوكولاتة، وذلك بعدما كشفت الدراسات تسرب الدعم النقدي بسبب توجه رب الأسرة إلى الإنفاق على أمور أخرى أقل أهمية.
وطالب النحاس الحكومة بضرورة تحقيق التوازن في هذا القرار للتوفيق بين الطرفين فيتم القضاء على السوق السوداء من ناحية ومن ناحية أخرى تستطيع المحافظة على الهيكل الاجتماعي الشهري لكل مواطن مستحق، مشددًا على ضرورة إعادة وضع شروط وضوابط الانضمام إلى المنظومة في حال تقديم الدعم العيني للتأكد من أنّ المبالغ ستصل للمستحقين الفعليين، مع ضرورة مواكبة التضخم والتأكد من أنّ قيمة الدعم العيني كافية لتوفير كافة احتياجات الفرد في حال تطبيقها بما يتناسب مع وضع التضخم في الدولة.
من بين كل القرارات والإجراءات التي اتخذتها الحكومة المصرية وتسببت في زيادة معاناة المصريين خلال السنوات الماضية، سيصبح قرار التحول من الدعم السلعي إلى الدعم النقدي هو الأكثر إثارة للجدل والغضب، إذ اتفق عدد كبير من الخبراء على أنّ الحكومة ستترك المواطن تحت رحمة التُجار الذين يتلاعبون بالأسعار بسبب غياب الرقابة على الأسواق، هذا بالإضافة إلى أنّ الدعم النقدي الذي ستقرره الحكومة سيتضاءل مع كل موجة تضخمية تضرب البلاد وما أكثرها.. فهل تصدر الحكومة المصرية هذا القرار مع كل المحاذير القائمة لتكمل مشوار انسحابها من مسؤولياتها الاجتماعية تجاه مواطنيها؟.
(خاص "عروبة 22")