بينما كانت دول منظمة بريكس تعقد قمتها في قازان الروسية وتبحث خططها لعالم جديد متوازن وعادل دون هيمنة غربية، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي يواصل مخططه لتغيير الشرق الأوسط بالحديد والنار، ويتحدث عن شرق أوسط جديد، لا مكان فيه إلا للأخيار الذين ترضى عنهم إسرائيل، ولا مكان فيه للأشرار الذين يتمسكون بحقوق الشعب الفلسطيني.
ويرسل نيتانياهو المبعوث الأمريكي إلى لبنان آموس هوكشتاين برؤية إسرائيل لمستقبل لبنان، والأقرب إلى إنذار بالاستسلام، من بين بنودها: نزع سلاح "حزب الله" اللبناني، وحق تحليق الطائرات الإسرائيلية في سماء لبنان وقتما تشاء، واستبدال قوات اليونيفيل التابعة للأمم المتحدة بقوات من دول صديقة لإسرائيل. وفي الوقت نفسه ينفذ ما يُسمى بـ"خطة الجنرالات" التي تتضمن تهجير سكان غزة تحت ضربات الإبادة الجماعية، وكذلك يطمح إلى تهجير سكان الضفة، لكن طموحات نيتانياهو في التغيير لا تتوقف عند حدود فلسطين، بل تذهب أبعد من ذلك بكثير، وتصل إلى فرض الهيمنة على المنطقة.
لم يكن بمقدور نيتانياهو أن يتحدث بتلك الغطرسة إلا إذا كان يضمن المشاركة الأمريكية، وليس دعم مشروعه فقط، وكأن واشنطن تعيد طرح مشروع كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد بوش الابن عن الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة بصورة أكثر ترويعا وقسوة بدعم أعمال الإبادة والاغتيالات والبطش وحرق خيام الفلسطينيين وتجويعهم، وفي العلن تصدر بيانات إدانة لهذه الإجراءات بالغة العنف. لكن هل بمقدور نيتانياهو أن يغير خريطة الشرق الأوسط حقا بهذه الوسائل؟
لقد ظن أن عمليات الاغتيال الناجحة لقيادات "حزب الله" و"حماس"، والأحزمة النارية التي تبيد مربعات سكنية كاملة ستكون رادعة بما يكفي لنشر الرعب، وبالتالي تحقيق النصر. فهل تكفي هذه الأعمال مهما كانت درجة ترويعها؟
كانت الحكومة الإسرائيلية تعتقد أنها كافية، وأن النصر الإسرائيلي في غزة ولبنان أصبح وشيكا، وسيجعله هذا النصر يفرض شروطه على كل دول المنطقة، لكن نيتانياهو فوجئ بأن العمليات ضد القوات الإسرائيلية تتواصل بقوة في شمال غزة، والصواريخ تنطلق من لبنان كل يوم، وبمعدلات تزيد يوما بعد يوم، ومداها وقوتها ودقتها في مسار تصاعدي، وجرى ضرب معسكر للواء جولانى الشهير، وفجرت طائرة مسيرة منزل نيتانياهو، وميناء حيفا الإستراتيجي تنهال عليه الصواريخ كل يوم، وتنال تل أبيب نصيبا آخر، ويرد نيتانياهو بضربات أشد عنفا، وتركز على المدنيين، لأنه يرى أن ضرب الحاضنة الشعبية أسهل وأكثر إيلاما، حتى لو نال من سمعة إسرائيل، لأنه لم يعد يهمه أحدا، لا الرأي العام العالمي ولا المنظمات الأممية، وكأنه منفلت وبلا سقف ولن يوقفه أحد، وهذه الصورة المخيفة ستمنحه المزيد من المهابة.
هذه الصورة المرعبة التي يرسمها نيتانياهو لنفسه، يعتقد أنها ستحقق أهدافه، وسترضي أمريكا والغرب، وتعزز نفوذهم في المنطقة، لكن هذه الأوهام الإسرائيلية لن تصمد طويلا، فالفرق العسكرية الخمس التي بدأت عمليتها البرية في جنوب لبنان لم تحرز أي تقدم ملموس، وخسائرها في تزايد، وكذلك الأمر في غزة رغم كل الدمار الوحشي، والنتيجة ستكون خيبة جديدة، وسيحصد نيتانياهو المزيد من الكراهية والعزلة، التي ستطال واشنطن.
وفي المقابل تتمدد منظمة بريكس بمشروعاتها الواعدة في إعادة بناء عالم أكثر عدالة، تتحرر فيه التجارة العالمية من منظومة السويفت والدولار، عالم بدون عقوبات ولا شروط إذعان من صندوق النقد والبنك الدوليين على الدول المقترضة، وإنما علاقات دولية تحترم سيادة الدول وخصوصيتها الثقافية والأخلاقية، ولهذا دشنت نظاما موازيا لمنظومة سويفت، ونظاما للتبادل التجاري بعملات رقمية بعيدا عن رقابة وعقوبات واشنطن والغرب، وقروض بلا شروط تتعلق بتعويم العملات أو بيع الملكيات العامة أو رفع الدعم والأسعار.
كما دعت إلى منظومة أممية جديدة لا تحتكر دول الغرب إدارتها لصالحها، وإنما تعامل كل دول العالم على أسس عادلة..مشاريع واشنطن في الشرق الأوسط وأوكرانيا وشرق آسيا تحاول استعادة هيمنة الغرب بالحديد والنار والترويع والعقوبات، بينما ترفع منظمة بريكس راية جديدة واعدة بعالم أكثر أمنا وعدلا، لهذا لن يربح الغرب، وسيواصل الشرق والجنوب رحلة البزوغ.
(الأهرام المصرية)