صحافة

بريكس: قمّة قازان انطلاقة كبرى تحتاج إرادة

سعيد الشهابي

المشاركة
بريكس: قمّة قازان انطلاقة كبرى تحتاج إرادة

ربما لم يسمع الكثيرون عن مدينة "قازان" بل حتى تتارستان، البلد الذي هي عاصمته، ولكن جاء المؤتمر السادس عشر لمنظمة "بريكس" ليوجّه الأنظار إلى منطقة شمال القوقاز التي بدأت تأخذ موقعها على الخريطة السياسية الدولية لأسباب عديدة من بينهما تصاعد إنتاجها من النفط والغاز وتعمّق حالة الاستقطاب بين روسيا والمعسكر الغربي.

هذه المرة كان المؤتمر المذكور مادة للتحليل السياسي حول مستقبل سياسة المحاور والاستقطاب السياسي والسباق بين الصراع والتعاون. وقد حدثت قشعريرة في الجسد الغربي عندما التقى، على هامش القمّة، الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مع الرئيس الصيني، شي جين بينغ ورئيس الوزراء الهندي نياندرا مودي.

هذه البلدان الثلاثة تمثل محورا اقتصاديا صاعدا من جهة ومن جهة أخرى تكشف حالة من الوفاق بين هذه الدول التي كانت علاقاتها تشهد قدرا من التوترات الحدودية. وقد استطاعت الهند التوصل لاتفاق مع الصين حول التوتر على حدودهما. وزاد من أهمية القمة حضور عدد غير قليل من الزعماء الذين يمثلون "الجنوب العالمي" برغم الجهود الغربية لمحاصرة روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية.

وبالإضافة للزعيمين الصيني والهندي حضر حوالي عشرين من الزعماء من بينهم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غيتيريش والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان. وقد يكون هذا الحضور رمزيّا فحسب، ولكنه مؤشر لأمرين يقلقان ساسة الغرب: أولهما تنامي النفوذ الروسي والصيني من جهة ومن جهة أخرى تغير المزاج العالمي إزاء المحور الغربي خصوصا لجهة السياسات الأمريكية التي لا تعجب الكثيرين. يضاف إلى ذلك أن "بريكس" التي بدأت بخمس دول فحسب، أصبحت تتوسع بشكل مضطرد. ففي القمة الخامسة عشرة أقرت طلبات من أربع دول للعضوية:إيران ومصر وأثيوبيا والإمارات. وهناك الآن 30 دولة تقدمت بطلب الانضمام إلى هذا المحور بالإضافة للدول التسع الأعضاء حاليا. ومما زاد من غضب الغربيين أن القضية الأوكرانية لم تحظ باهتمام خاص ولم يجد بوتين نفسه محاصرا بالنقد أو الشجب أو المطالبة بالانسحاب من أوكرانيا.

الواضح من سياق توسع منظمة بريكس منذ تأسيسها في العام 2009 أن قادتها يعملون لتطوير نظام اقتصادي مواز للنظام الغربي الذي تتصدره الولايات المتحدة الأمريكية. وتحت عنوان: "تقوية التعددية السياسية لتحقيق تنمية وأمن عالميين"، طرحت روسيا مسألة الدولار ودعت لبدء التخلص من هيمنته على الاقتصاد العالمي. كما طرح المشاركون نظاما ماليا باسم "دفع بريكس" لتسهيل التبادل المالي والمعلوماتي بين البنوك المركزية للدول الأعضاء من أجل سداد المستحقات المالية الدولية.

وكان البيان الختامي الذي صدر عن قمة قازان لافتا للنظر. فقد تبنى أطروحات سياسية مهمة من بينها إصلاح عضوية مجلس الأمن الدولي وقبول عضوية كاملة بالأمم المتحدة لدولة فلسطين. وتتوقع المنظمة أن يتوسع نفوذها في العالم مستقبلا نظرا لعجز النظام المالي التقليدي عن مواكبة التطورات العلمية خصوصا في ضوء التكنولوجيا التي تتطور باستمرار. وتعتبر المنظمة امتدادا لـ"منظمة شنغهاي للتعاون" ومقرها بكين، التي تأسست في العام 2001 بعضوية روسيا والصين وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان وطاجكستان، ثم انضمت لها باكستان والهند وإيران.

أما بريكس فتأسست في 2009 وتضم البرازيل وروسيا والهند والصين ثم انضمت لها جنوب أفريقيا. وتسعى المنظمتان لإنشاء نظام جديد ينهي هيمنة القطب الواحد متمثلا بالولايات المتحدة الأمريكية على اقتصادات العالم. وهناك شعور عميق لدى العديد من زعماء ما يسمى “الجنوب العالمي” بأن الدول الغربية تفرض قيودا على الدول النامية والضعيفة لمنعها من التحرر الاقتصادي.

قمة شنغهاي التي عقدت في منتصف الشهر الحالي كانت فرصة لتوطيد أركان بريكس ولكن يبدو أن الخلافات بين الدول الأعضاء لن يحقق ذلك في المستقبل المنظور. فقد رفضت الهند دعم مبادرة صينية باسم "الحزام والطريق"، الذي ترى فيها انتهاكا لسيادتها. فهذا الطريق يمر في الجزء الذي تسيطر عليه باكستان من إقليم كشمير الذي تختلف الهند وباكستان بشأنه، وكان فتيلا لثلاث حروب سابقة بين الدولتين النوويتين.

مبادرة "الحزام والطريق" هي خطة بقيمة تريليون دولار لبناء شبكات البنية التحتية والطاقة العالمية، أطلقتها الصين في عام 2013، لربط آسيا بإفريقيا وأوروبا من خلال طرق برية وبحرية. وقد وقّع أكثر من 150 دولة، بما في ذلك روسيا، على المشاركة في المشروع. وأكدت تلك القمة ضرورة تفعيل مخرجات قمة المنظمة التي عقدت في الآستانة، في الأسبوع الأول من شهر يوليو الماضي.

ومن شأن هذا الاختلاف بين الهند والصين أن ينعكس سلبا على منظمة بريكس، برغم محاولة البلدين التأكيد على رغبتهما في التوافق بشأن القضايا الكبرى وعدم الانشداد إلى الصغير منها المرتبط بالحدود بين البلدان. فلا شك أن هناك رغبة قوية لإقامة منظمة اقتصادية بديلة عن النظام الاقتصادي السائد في العالم حاليا، ولكن ذلك يتطلب توافقا حقيقيا بين دول بريكس، كما يتطلب الانتقال من مرحلة الحلم الكبير إلى الواقع. ومع ذلك لن يستطيع أي نظام مصرفي عالمي ان يتجاوز بشكل كامل موضوع التحويل بين البلدان، الذي يخضع في الوقت الحاضر لنظام "سويفت" الذي تسيطر عليه أمريكا. ومن المؤكد أن الغربيين يشعرون بخطر هذا التحول ولكن في الوقت نفسه لا يستطيعون التأثير عليه.

فدول "الجنوب العالمي" التي تصر على تطوير مشروع بريكس تسعى لإقامة عالم متعدد القطبية، ولكنها هي الأخرى لن تحقق هذا التحوّل بدون أن يكون لديها بديل للدولار كعملة أساسية للتبادل المالي العالمي. وحتى الآن لم تستطع بريكس طرح عملة بديلة، برغم الأفكار التي طرحت كثيرا، والتي تطرقت لفكرة تشكيل عملة مكوّنة من عملات الدول الأساس في المشروع. وبرغم صعوبة هذا التوجه إلا أن نجاح الاتحاد الأوروبي في مشروع "اليورو" كعملة مشتركة جعلها تدريجيا عملة عالمية لا يمكن تجاوزها.

ويتطلب الاتفاق على عملة بديلة تمثل اقتصاد الجنوب العالمي أمورا عديدة: أولها إقرار توافق دول بريكس على السعي الحثيث لطرح عملة مشتركة، ثانيها: إثبات قدرة هذه العملة على أن تكون بديلا حقيقيا وعمليا للدولار، وثالثها: أن يكون القادة على مستوى المسؤولية، فيتجاوزوا الاختلافات البينية ويضعوا الأهداف الكبرى للمنظمة أمامهم. ومن المؤكد أن وجود الصين والهند وروسيا ضمن المنظمة يساعدها على مواصلة ذلك المشوار. ولكي ينجح ذلك فمن الضروري منع الانشغال بقضايا محلية أو إقليمية أقل شأنا لمنع تشتت الأفكار وحدوث مفاصلة نفسية وفكرية بين الأنظمة الحاكمة في دول "بريكس".

ولكي تكون الدول الغربية بمستوى المسؤولية فإنها مطالبة باحترام دول العالم الأخرى التي تختلف معها سياسيا وأيديولوجيا وثقافيا، وأن صغر اقتصاداتها لا يعني عدم جدواها عمليا. وما على أمريكا إلا أن تنظر إلى حلفائها الأوروبيين لتكتشف أن انخفاض مستوى المعيشة لا يعني عدم جدوى اقتصادات تلك الدول مقارنة بالاقتصاد الأمريكي العملاق. وعلى أمريكا أن تستوعب حقيقة أخرى: فلدى كل من اليابان وألمانيا اقتصادات عملاقة تستطيع المساهمة الفاعلة في إعادة التوازن للاقتصاد العالمي، والمساهمة في إنهاء ظاهرة القطب الواحد، والمساهمة في جهود محور "الجنوب العالمي" من أجل التعجيل بإنهاء سياسة أحادية القطبية.

برغم الاختلاف في المنطلقات والرؤى في قمة قازان فهناك رؤى متشابهة لدى المشاركين فيها، أهمها حماسهم للمشروع الاقتصادي الذي يعتبر الأول من نوعه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبرغم الطبيعة الاقتصادية لـ "بريكس" فقد رشح عن المشاركين ما يشير إلى تخطّي الجانب الاقتصادي إلى التعاطي مع القضايا السياسية والثقافية الكبرى. فعلى الصعيد الاقتصادي هناك رؤية شبه مشتركة تجاه قضية فلسطين وضرورة دعم شعبها واعتبار الدعم الغربي لـ"إسرائيل" رديفا للتوجه الغربي للهيمنة الاقتصادية العالمية. هذا من الجانب السياسي. أما الجانب الثقافي فإنه يفتح آفاقًا جديدة ويقدم حلولًا إبداعية غير متوقعة.

وتعتبر تجربة صناعة فيلم "دوستويفسكي القارّي" الذي عرض خلال القمّة، درسا في البحث عن قواسم مشتركة في أهم الأمور منها: معنى الحياة الإنسانية والقيم الروحية التي تربط شعوب دول بريكس، بغض النظر عن اختلاف الثقافات والتقاليد والرؤى، كما قال إيفان زاخارينكو مخرج الفيلم، ورئيس قسم البث المواضيعي والمشاريع الخاصة في شبكة تلفزيون بريكس الذي يؤكد الرغبة في توسيع مجالات التعاون بين الدول الأعضاء.

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن