يستمر المسؤولون الأمريكيون بإعلان التزاماتهم بالدفاع عن أمن كيان الاحتلال، رغم كل حماقاته وإجرامه اللامتناهي في غزة ولبنان، وانتهاكه سيادة الدول بلا رادع أو إنصات للقانون الدولي. تخشى الولايات المتحدة أن يتحول الأمر إلى حريق إقليمي يجذب القوات الأمريكية إلى حروب ليست مستعدة لها، رغم أنّ هدف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المتمثل في توريط الولايات المتحدة في حرب أوسع في الشرق الأوسط قد تحقق جزئيا وبالفعل.
ربما لهذا السبب، قال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، لوزير الحرب الإسرائيلي غالانت إن "الدبلوماسية المبدئية هي الطريقة الوحيدة لمنع أي تصعيد إضافي للتوترات في المنطقة". لا يبدو أن لدى إسرائيل أي خيارات عسكرية يمكن أن تؤدي إلى نتيجة أفضل من التسوية التفاوضية. ولا شك أن حزب الله سعى عمليا إلى فرض معادلة خاصة به: لا سلام وأمن في شمال إسرائيل، إذا لم يكن هناك سلام وأمن في جنوب لبنان.
ومن غير الواضح كيف يمكن لإسرائيل أن تمنع ذلك أو تتجاوزه. لكن المؤكد توازيا مع كل ما يحدث، أنّ الركود الكارثي، إلى جانب العزلة العالمية المتزايدة التي تعيشها إسرائيل والتوقعات الاقتصادية الكئيبة على نحو متزايد، جميعها تساهم في تعزيز الشعور باليأس والإحباط في الداخل الصهيوني.
والواقع أن جوانب مهمة من السياسة والمجتمع الإسرائيلي لم تتغير إلا قليلا بشكل مدهش منذ أعقاب هجوم حماس مباشرة. فمازال مستوطنو المناطق الحدودية في الشمال والجنوب غير قادرين على العودة. ولم يؤد القتال المتعدد الجبهات الذي تخوضه إسرائيل ولا ترغب حكومة المتطرفين في إيقافه إلا إلى توسيع الفجوة الاجتماعية والسياسية القائمة بين معارضي نتنياهو وأنصاره، بدلا من توحيدهم داخليا. ورغم أن الاستراتيجية وراء أي هجوم لا تزال غير واضحة، إلا أن الأمل الذي يمني به نتنياهو نفسه حتى الآن قد يكون إبعاد حزب الله عن الحدود الشمالية لإسرائيل، حتى يمكن إنشاء منطقة عازلة.
وقد ضغط بعض الوزراء الإسرائيليين اليمينيين المتشددين من أجل هذه المناورة على وجه التحديد. ولكن كما حذر جنرال متقاعد في صحيفة "هآرتس" مؤخرا، من اندفاعة مبالغ فيها، على نحو التأكيد أنّ حزب الله أقوى بمئات المرات من حماس، ويفتقر الجيش الإسرائيلي إلى الأعداد اللازمة للاستيلاء على الأراضي والاحتفاظ بها على جبهتين، لأن لديه أقل من نصف عدد القوات البرية كما كان قبل عقدين من الزمن.
مهما طال زمن الاستعمار، فإنّ من يحمل صفة الوجود الحقيقي هو فلسطين وليس كيان الاستيطان الإحلالي المجرم. ودعم إسرائيل في عدوانها على غزة وفلسطين ولبنان هو دعم للانحطاط الأخلاقي والسقوط الإنساني
صحف أمريكية أكدت أنّ القوات الأمريكية شاركت بشكل مباشر للمرة الثانية هذا العام في إسقاط الصواريخ التي أطلقتها إيران، ردا على الهجمات الإسرائيلية على المصالح الإيرانية. أحد أحدث التوسعات في مشاركة الولايات المتحدة في حروب إسرائيل هو نشر نظام الدفاع الصاروخي "ثاد" في إسرائيل، إلى جانب حوالي 100 عسكري أمريكي لتشغيله، عمليات النشر هذه لا تعرّض الأمريكيين للخطر بشكل متزايد فحسب، بل تشجع نتنياهو أيضا على تصعيد حروبه بشكل أكبر، من خلال الحد من تأثير الانتقام الحتمي من قبل الذين تهاجمهم إسرائيل.
ويتذكر الأمريكيون جيدا أنّ تفجير ثكنات المارينز في عام 1983 كان نتيجة مباشرة لسماح الولايات المتحدة لنفسها بالتورط في إحدى الحروب الهجومية الإسرائيلية، ولولا هذا التدخل، لما حدث القصف والتفجير أبدا. بات مؤكدا أنّ جميع خيارات التصعيد الإسرائيلية ستفشل أمام حزب الله، ما لم توقف تل أبيب الحرب على غزة. وكما أشار مايكل يونغ فإنّ أقصى ما يمكن للكيان المؤقت تحقيقه من مكاسب في الجبهة اللبنانية من خلال التفاوض، هو العودة الى قواعد الاشتباك التي كانت ما قبل عملية طوفان الأقصى 7 أكتوبر 2023.
صحف عبرية على غرار "معاريف" اعتبرت أنّ المستوى السياسي يفشل في ترجمة ما وصفته بالإنجازات التكتيكية التي حققها الجيش الإسرائيلي في ساحة المعركة، لا في غزة ولا في لبنان حاليا. طاقم نتنياهو السياسي لم يعرف كيف يحدد الخطوة الأهم في الحرب: بعد خطة الخروج من الحرب، المهم حسب وصفها هو خطة إغلاق الحرب، خطة الخروج، "لذلك نحن في غزة غارقون في الوحل. في عمق الطين. وهذا هو سبب عودتنا إلى جباليا. وهذا هو السبب الذي يجعل مقاتلي الفرقة 252 يقاتلون كل يوم في الزيتون في البريج. في غزة، نحن على بعد 101 خطوة من النصر. خطة مغادرة غزة تمر عبر اتفاق إطلاق سراح الرهائن".
وفي هذا السياق تأتي محاولة نتنياهو ومجموعته في تضخيم الهجوم الذي حدث على إيران، المحاولة التي كانت بائسة ومكشوفة، وتعكس فعلا حالة الخيبة الكبيرة داخل الكيان من هذا الهجوم الذي حصل. كثير من الإسرائيليين هاجموا هزالة هجوم كيانهم، وعبروا عن خيبتهم تجاه تناقض التصريحات السابقة لمسؤولين سياسيين وعسكريين، والذي حصل.
وكان زعيم المعارضة يائير لابيد ورئيس حزب "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان وعضو الكنيست فلاديمير بيليك، من بين الذين عبروا عن خيبتهم من الهجوم، وعلقوا على هشاشة الموقف الإسرائيلي، كذلك عضو الكنيست تالي جوتليب، التابعة لحزب الليكود والتي تعدّ مقربة من بنيامين نتنياهو. في الأثناء، إيران تؤكد أنها سترد على هذا العدوان بتوقيتها وضمن استراتيجيتها العسكرية الموضوعة. وبالتالي النزاع مستمر، وإمكانية الفوضى الكبرى تبقى قائمة في نطاق هذه الجولات والردود.
بعد كل مجازر إسرائيل وحرب الإبادة التي تقوم بها بمشاركة أمريكية على سكان غزة، مازال الأمريكيون ينظرون إلى التطبيع كمسار من شأنه أن "يربط إسرائيل ببنية أمنية إقليمية، ويفتح الفرص الاقتصادية في جميع أنحاء المنطقة، ويعزل إيران ووكلائها". وهذا ما أكده وزير الخارجية بلينكن من أنّ اللياقة الاستراتيجية للولايات المتحدة تعتمد إلى حد كبير على قدرتها التنافسية الاقتصادية. وإن المنافسة الشرسة تدور الآن لتحديد ملامح عصر جديد في الشؤون الدولية.
وهناك عدد قليل من البلدان، خاصة روسيا، مع شراكة إيران وكوريا الشمالية، فضلا عن الصين عازمة على تغيير المبادئ الأساسية للنظام الدولي. في المحصلة، الغرب أعطى فعلا إسرائيل حرية التصرف في عملياتها في غزة والضفة الغربية وصولا إلى لبنان. ولم يبذل حتى الآن أي جهد حقيقي لإحياء عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، أو حتى يوقف المجازر والمذابح التي تتم يوميا في غزة على يد آلة القتل الصهيونية بدم بارد.
الغرب يبدو مستسلما لتأكيدات نتنياهو بأن الوقت غير مناسب. وتعكس هذه السياسة ديناميكية قديمة في علاقة إسرائيل بالغرب، وبصورة خاصة مع الولايات المتحدة، إذ يوافق الحلفاء الغربيون على اتباع خطى إسرائيل في التعامل مع القضية الفلسطينية ما دامت إسرائيل تحترم مخاوفهم في الشرق الأوسط الأوسع.
ولكن مهما طال زمن الاستعمار، فإنّ من يحمل صفة الوجود الحقيقي هو فلسطين وليس كيان الاستيطان الإحلالي المجرم. ودعمهم لإسرائيل في عدوانها على غزة وفلسطين ولبنان هو دعم للانحطاط الأخلاقي والسقوط الإنساني. والحرب الكارثية على غزة أثبتت حقيقة المشروع الأمريكي الصهيوني، ومن ورائه المتذيلين من دول أوروبية صاحبة الماضي الاستعماري الفظيع.
(القدس العربي)