انقسمت الفصائل الولائية في العراق في مواجهة تداعيات الحرب الدائرة في الشرق الأوسط. وبات الانقسام في مواقفها جليا، إذ تصر ميليشيا "حزب الله العراقي" وميليشيا "النجباء" على الانضواء التام تحت عباءة المرشد الإيراني الأعلى والخضوع التام لأوامر قيادة فيلق القدس المباشرة، بينما تحاول بقية الفصائل الولائية القريبة من طهران، لعب أدوار براغماتية عبر النأي بنفسها عن الصراع المشتعل بين إيران وإسرائيل، وتبرير ذلك بمختلف الطرق، مثل سعي حكومة السوداني (والفصائل الولائية جزء رئيس منها) لعب دور الوسيط الضاغط على الولايات المتحدة، للوصول لاتفاق وقف إطلاق النار وبالتالي إيقاف المجزرة الصهيونية المرتكبة في غزة ولبنان.
مع تصعيد التوتر والضربات المتبادلة بين إيران وإسرائيل، حاولت بعض الميليشيات العراقية أن تلعب دورها المتمثل بالخضوع التام لأوامر القيادة الإيرانية، ففي انتظار الرد الإسرائيلي الأخير، الذي كان من المتوقع أن يستهدف مراكز الصناعة النفطية الإيرانية، نشرت ميليشيا "النجباء" مقطع فيديو، أطلق فيه رئيس المجلس التنفيذي للحركة ناظم السعيدي، تهديداته محذراً من أن "المقاومة العراقية ستستهدف مراكز الطاقة في المنطقة، إذا ما تم قصف منشآت النفط الإيرانية"
وكانت كتائب "حزب الله العراقي" هي أول ميليشيا عراقية تصعّد من خطاب ما سمته بـ(حرب الطاقة)، ففي 3 تشرين الأول/أكتوبر، نشر أبو علي العسكري، المسؤول الأمني لكتائب حزب الله، رسالة قصيرة على تطبيق تلغرام قال فيها: "إذا بدأت حرب الطاقة، سيخسر العالم 12 مليون برميل من النفط يومياً. وكما قالت كتائب حزب الله سابقا، إما أن ينعم الجميع بالخيرات أو يُحرم الجميع".
وقد أعقب هذا التهديد بيان للأمين العام للجماعة أبو حسين الحميداوي، تضمن لغة شديدة اللهجة ضد بعض الحكومات العربية، حيث قال: "لقد تجسدت في جبهة العدو كل أنواع الشر والهمجية والإجرام، متخطيةً كل حدود التصور البشري، وباشتراك مباشر وفعال من أمريكا الشر والدول الغربية التابعة لها، وبدعم من نظام السيسي والنظام الأردني الخبيث، والكيان السعودي بمؤسساته الوهابية، والنظام الإماراتي، وستُحفر أفعال هؤلاء في ذاكرة الأمة ما سينتج بركانا من الغيض والانتقام لا يمكنهم إيقافه".
حكومة السوداني حاولت أن تنأى بنفسها عن هذا التوتر الذي تسببه كتائب "حزب الله" وحركة "النجباء"، وأوضح مثال على ذلك تصريحات الشخصيات العراقية الرسمية حول موقف العراق من محور المقاومة. ففي لقاء تلفزيوني مع مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي، أجاب على عدة أسئلة بمراوغة وبطريقة تسويفية واضحة، إذ رد على تصريحات أبو علي العسكري، حول "إطلاق حرب الطاقة" وقال إن مثل هذه التصريحات تمثل رأيه ولا تمثل وجهة نظر الحكومة.
كما قال الأعرجي، إن العراق يعتمد بالكامل على النفط، واستبعد مشاركة العراق بتقديم مساعدات عسكرية بصورة مباشرة، أو غير مباشرة لمحور المقاومة، وتعليقاً على سؤال مفاده: هل يمكننا القول، إن العراق ما زال ضمن محور المقاومة أم صديقاً للولايات المتحدة؟ أجاب الأعرجي: "العراق محور بحد ذاته"، مشيراً إلى أن المرجعية حاولت السيطرة على مشاعر العراقيين العالية تجاه الأحداث في فلسطين ولبنان، من خلال بيانها وحصرت الدعم بالإغاثة تجنباً لجر البلاد إلى قضايا غير محسوبة.
بعد أن اتضحت نتائج الضربة الإسرائيلية الأخيرة على إيران، التي استهدفت البنية التحتية العسكرية ومنشآت تصنيع وخلط الوقود الصلب الخاص بالصواريخ البالستية، توقع المراقبون أن تهدئة سوف تحصل ولو بشكل مؤقت بين الطرفين، لكن التصريحات الايرانية تعالت مجددا مهددة برد إيراني على الضربة الإسرائيلية، إذ قال قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي، إن إسرائيل ارتكبت خطأ عندما هاجمت إيران، وأكد أن رد إيران سيكون "مختلفا عن أي سيناريو" قد تتوقعه إسرائيل.
وقال مصدر إيراني رفيع المستوى لشبكة CNN إن إيران تخطط لرد "حاسم ومؤلم" من المرجح أن يأتي قبل الانتخابات الأمريكية التي ستجرى يوم 5 تشرين الثاني/نوفمبر. كما قال محمد محمدي كلبايكاني رئيس مكتب المرشد الأعلى الإيراني، لشبكة الميادين التلفزيونية إن الرد الإيراني "مؤكد"، وأضاف أن الرد الإيراني سيكون "قويا" وسيجعل "عدونا يندم" على هجومه.
باراك رافيد من موقع أكسيوس المختص بالشؤون العسكرية كتب مقالا أشار فيه إلى: "إن مصدران إسرائيليان قريبان من الاستخبارات الإسرائيلية قالا إن إيران تستعد لمهاجمة إسرائيل من الأراضي العراقية في الأيام المقبلة، ربما قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية". وأضاف رافيد: كانت إسرائيل وإيران منخرطتين في تصعيد للرد بالمثل لأسابيع. إن تنفيذ الهجوم من خلال الميليشيات الموالية لإيران في العراق وليس مباشرة من الأراضي الإيرانية قد يكون محاولة من إيران لتجنب هجوم إسرائيلي آخر ضد أهداف استراتيجية في إيران".
وقالت المصادر "إن الاستخبارات الإسرائيلية تشير إلى أنه من المتوقع أن يتم تنفيذ الهجوم من العراق باستخدام عدد كبير من الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية". بينما أوضح مسؤول أمريكي لموقع أكسيوس، أن إيران قد تضع استعداداتها بسرعة موضع التنفيذ، إذا قررت طهران الضرب قريبا، لكن الولايات المتحدة لا تعرف ما إذا كان هذا القرار قد تم اتخاذه.
المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي يملك الكلمة الأخيرة في جميع شؤون الدولة في إيران، حذر من أنه ينبغي عدم التقليل من أهمية الضربة وأنه يجب وقف "الحسابات الخاطئة" الإسرائيلية، ولكنه أحال الأمر إلى آخرين في تحديد الرد. وقال: "بالطبع، يجب أن يكون مسؤولونا هم الذين يقومون بتقييم وفهم ما يجب القيام به بدقة والقيام بكل ما هو في مصلحة هذا البلد والأمة".
ويذكر روبرت بارون وجاريت نادا من معهد السلام الأمريكي، أن إيران قد تبدو ضعيفة إذا لم تشن هجوماً مضاداً، ولكن طهران قد لا تكون على استعداد للمجازفة برد فعل إسرائيلي أكثر ضرراً. ويقال إن إسرائيل استهدفت بطاريات الدفاع الجوي، الأمر الذي قد يجعل إيران أكثر عرضة للهجمات. ويبدو أن إسرائيل التزمت بالتوجيهات الأمريكية بعدم استهداف المنشآت النفطية أو النووية الإيرانية في ضربتها الأخيرة، ولكنها قد لا تظهر مثل هذا التحفظ مرة أخرى. وقد يشكل الهجوم على المنشآت النفطية ضربة قوية للاقتصاد الإيراني، الذي أضعفته بالفعل سنوات من العقوبات الأمريكية.
من الواضح للمراقب، ووفقاً لأربعة مصادر من الفصائل الولائية العراقية القريبة من إيران ومستشارين حكوميين، أن حكومة السوداني لم تنجح في إقناع (المقاومة الإسلامية في العراق) بوقف إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة على إسرائيل. وقالت المصادر إن زيارتين قام بهما كبار المسؤولين الأمنيين العراقيين إلى إيران في الشهرين الماضيين سعياً للحصول على مساعدة طهران في كبح جماح الفصائل العراقية المتحالفة معها باءتا بالفشل.
وقال مسؤول أمني عراقي كبير مطلع على تفاصيل الزيارتين: "لقد استقبل الوفد العراقي بفتور في طهران. وكانت إجابة الايرانيين: إن هذه الجماعات لها قرارها الخاص وهي مطالبة باتخاذ القرار بشأن كيفية دعم إخوانها في لبنان وغزة".
وعلق مختصون في الشأن العراقي على الموقف لوكالة "رويترز" بالقول: إذا تصاعدت المواجهة، فإن ذلك قد يؤدي إلى تصعيد الموقف. إن الصراع الإقليمي المتنامي يهدد بسحب الميليشيات الشيعية العراقية، وكثير منها مسلحة بكثافة، إلى مواجهة لم يكن لدى الكثيرين الرغبة فيها في البداية.. "وإن مقاتلي الفصائل الولائية في العراق اليوم ممزقون بين الحفاظ على قرارهم بإبعاد العراق عن المواجهة المباشرة مع الكيان الصهيوني من جهة، والتزاماتهم العقائدي تجاه شيعة لبنان ومحور المقاومة الأوسع من جهة أخرى"، لكن الكل بات يشهد يوميا تعرض المنطقة لأشرس الأفعال الهمجية الإسرائيلية التي تجاوزت كل الخطوط الحمر المسموح بها، ولن يستطيعوا البقاء متفرجين لوقت أطول.
(القدس العربي)