وجهات نظر

جدعون ساعر و"حِلف الأقلّيات"

لم تمضِ سوى أيام قليلة على تولّي جدعون ساعر حقيبة وزارة الخارجية حتى خرج علينا بتصريح بالغ الخطورة دعا فيه إلى تعزيز علاقات إسرائيل مع "الأقليات" في منطقة الشرق الأوسط. وقال ساعر ما نصّه: "علينا تعزيز العلاقات وبناء تحالفات مع الأكراد والدروز والأقليات العرقية في الشرق الأوسط… فالأكراد ضحايا للقمع الإيراني والتركي، وإسرائيل يجب أن تمّد يدها وتعزّز العلاقة معهم، إن هذا له جوانب سياسية وأمنية... دروز سوريا ولبنان شركاء محتملون أيضًا... يجب أن نفهم أنه في منطقة حيث سنكون دائمًا أقلية، فإنّ التحالفات ستكون طبيعية مع أقليات أخرى".

جدعون ساعر و

مبعث خطورة هذا الكلام ليس أننا نسمعه لأول مرّة، فكما يُقال بالتعبير الفرنسي فإنّ تصريح ساعر "déjà vu"، أي سبق أن رأيناه في كل تجارب الاحتلال التي مرّت علينا في الوطن العربي، من المغرب إلى مصر ومن لبنان وسوريا إلى السودان. في كل هذه التجارب للاستعمارَيْن الفرنسي والبريطاني جرت محاولات توظيف التعدّدية التي يتميّز بها سكان الوطن العربي من أجل ضرب مكوّناته بعضها ببعض.

ثم غُرست إسرائيل في قلب الوطن العربي وراحت تمارس السياسة عينها. حتى إذا أفل عصر الاستعمار البريطاني - الفرنسي وصعدَت الولايات المتحدّة إلى قمّة النظام الدولي قرأنا عن خرائط الدم التي تعيد النظر في حدود اتفاقية "سايكس – بيكو" على أُسس عِرقية ومذهبية. وكان العراق مختبرًا بعد عام ٢٠٠٣ لمحاولة تفكيك أوصاله والنفخ عبره في الروح الطائفية التي خيّمت على سماء المنطقة برّمتها.

حلف الأقليات هو جزء من الشرق الأوسط الجديد الذي يروّج له نتنياهو ويتوقّع قيامه من رحم حرب غزّة ولبنان

هذا إذن ليس بالأمر الجديد وسبق أن رأيناه وسمعناه، لكن الجديد في تصريح ساعر هو الصراحة التي قيل بها وبالفم الملآن، ويبدو أننا دخلنا عصر التصريحات الفجّة كما في إعلان نتنياهو ويمينه المتطرّف عن الرفض القاطع لقيام دولة فلسطينية بعد سنوات من الالتفاف والمناورة والمفاوضات التي تنتهي إلى لا شيء.

الأكثر مدعاة للاهتمام في تصريح جدعون هو توقيته، فأن يخرج وزير الخارجية الجديد في أسبوعه الأول ليطالب بحلف للأقليات فإنّ هذا يعني أنّ هذا الحلف هو جزء من الشرق الأوسط الجديد الذي يروّج له نتنياهو ويتوقّع قيامه من رحم حرب غزّة ولبنان.

يلفت النظر كذلك، في تصريح ساعر تحديده جماعتين بالاسم هما الأكراد والدروز، والأولى جماعة قومية بينما الثانية جماعة دينية، وبالتالي فعندما يتحدّث ساعر عن أهمية تحالف إسرائيل مع الأقليات العِرقية وحدها فإنّ تصريحه يبدو ناقصًا لأنّ التحالف المطلوب يمتَد ليشمل الأقليات الدينية أيضًا بدليل ذكره للدروز. ثم أنّ ساعر برّر الحاجة لحلف الأقليات العِرقية بأنّ اليهود أقلية في الشرق الأوسط، وهذا الربط بين اليهود والجماعات العِرقية لا أساس له، فدولة إسرائيل مؤسّسة على الأسطورة الدينية والقانون يثبّت هويتها الدينية بشكلٍ واضحٍ، واليهود الذين استوطنوا أرض فلسطين جاءوا من شتّى أنحاء الأرض، فأي علاقة لذلك بالأكراد أو الأمازيغ أو التركمان أو الشركس... إلخ؟.

كذلك، نلاحظ من تصريح ساعر تصعيدًا ضد كلٍ من إيران وتركيا بوصفه معاملة الدولتين لأكرادهما بـ"القمعية". وإذا كان التصعيد السياسي مع إيران يُعدّ أمرًا طبيعيًا، فكيف نفسّر التصعيد مع تركيا؟ صحيح أنّ هناك انتقادات تركية علنية للوحشية الإسرائيلية في غزّة ولبنان، لكن المتابع للدور التركي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٣ يلاحظ أنه أقل بكثير من المتوقّع من دولة تعلن مناصرتها للقضية الفلسطينية، مما يعني أنّ هناك نوعًا من البراغماتية التركية في التعامل مع إسرائيل، وهي براغماتية لها ما يبرّرها من علاقات ومصالح وتنسيق بين الدولتين. وبحكم أنّ المسألة الكردية مسألة شديدة الحساسية بالنسبة لتركيا، لنا أن نتصوّر انعكاس هكذا تصريح على العلاقات التركية - الإسرائيلية.

ومن المفارقات أنّ الحديث عن القمع التركي للأكراد جاء بعد حراك سياسي حاول أردوغان أن يُحدِثه تجاه المسألة الكردية، وذلك من خلال تبنّيه مبادرة الحركة القومية بالإفراج عن الزعيم الكردي عبد الله أوجلان شرط حلّ حزبه ونبذه ما تعتبره تركيا إرهابًا. فكيف سيتلقّى أردوغان الكلام عن قمع الأكراد الذي يصنّفه كإرهاب؟

لا يتوقّع أحد أن تكف إسرائيل عن ضرب المواطنين العرب بعضهم ببعض

وللتذكير فقط ولربط الأمور ببعضها فإنّ إسرائيل هلّلت عام ٢٠١٧ عندما نظّم أكراد العراق استفتاءً على حق تقرير المصير، وهو ما يعني تشجيع إسرائيل لانفصال الأكراد، فأي مخاوف يمكن أن يثيرها تصريح جدعون لدى أردوغان؟ نعم لقد صرف أكراد تركيا النظر عن الانفصال وطالبوا بالحكم الذاتي، لكن أكراد العراق أيضًا يتمتعون بفيديرالية شديدة الاتساع مقارنةً بسائر النظم الفيديرالية، ومع ذلك دعا مسعود برزاني إلى إنشاء دولة كردية مستقلّة.

أما "دقّ الإسفين" بين الدروز العرب وباقي مكوّنات الخريطة الدينية الغنيّة في الوطن العربي فلا يخفى على أحد. وهذا يحدث في الوقت الذي يدور فيه الكلام عن وقف لإطلاق النار في لبنان، وكأن جدعون بذلك يريد لإسرائيل أن تنتقل من تحريض سنّة لبنان ضد شيعته وبالعكس نتيجة تهجير سكان الجنوب والضاحية الجنوبية إلى تحريض السنّة والشيعة معًا ضد الدروز بدعوى أنهم مثل اليهود يمثلون أقلية!. ولئن كان لا يتوقّع أحد أن تكف إسرائيل عن ضرب المواطنين العرب بعضهم ببعض، فإنّ الحذر يجب أن لا يغادرنا أبدًا ونحن نتابع هذا المسعى الخبيث.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن