مأزقنا يتجلّى في عددٍ من المعطيات، ليس من بينها أنّ المقاومة لم تتمكّن من إلحاق الهزيمة العسكريّة التامّة بالعدو... لماذا؟ لأنّ المقاومة في الدّنيا وعلى مدى التّاريخ الإنساني كلّه، استقرّت على حقيقة أنّها لا تستطيع أبدًا أن تكافئ عدو شعوبها في القوّة الماديّة، وإنما هي دائمًا تتفوّق عليه في القوّة الأخلاقيّة النّابعة من نُبل وعدالة قضيّتها، ومن ثمَّ فإنّ مهمّتها المقدّسة هي إبقاء قضيّتها العادلة حيّة في الضّمائر، فضلًا عن إلحاق كل ما تستطيع من أذًى بالغزاة والمحتلّين وإقلاق راحتهم.
عدا عن هذا المعطى الوهمي السّابق، فإنّ التجلّي الحقيقي لمأزق المقاومة يتمثّل في حقيقتَيْن اثنتَيْن كلّ منهما سبب ونتيجة للأخرى، الحقيقة الأولى فقدان الحاضنة الرّسميّة العربيّة بشكلٍ شبه تامّ، أمّا الحقيقة الثّانية فهي اصطباغ الجزء الأكبر من قوى المقاومة النّاشطة الآن بلونٍ طائفيٍ ودينيٍ واحد بما يصطدم بمبدأ أساسي وحيوي في فكرة المقاومة أصلًا، أي مبدأ "الوحدة الوطنيّة" الذي يفرض في مرحلة التّحرير، تهميش الكثير من التباينات، بل وحتّى المتناقضات في صفوف الشّعب الساعي لنيل حريته واستعادة حقوقه من الغاصبين.
ظهور أدلّة ماديّة واضحة تشي بتآكل كلّ قدرة لدى كيان العدو على استمرار الوجود في المجتمعَيْن الإنساني والدّولي
طبعًا نحن نعرف أنّ الحقيقتَيْن السابقتَيْن اللتَيْن تُجسّدان مأزق المقاومة، لهما أسباب عديدة واضحة ترقد في بُنية ومكوّنات النّظام العربي الرّسمي الحالي، وكذلك طبيعة القوى الفاعلة راهنًا في محيطنا الإقليمي، سواء من حيث الميول الإيديولوجيّة والمذهبيّة لهذه القوى أو من حيث مطامحها وأهدافها.
تلك المعطيات والحقائق هي التي أنتجت غالبيّة جماعات المقاومة على الشّاكلة الحاليّة وفرضت عليها أن تتلوّن أهمّها وأكبرها باللّون الدّيني والمذهبي المعروف، ومن ثمّ جعلتها تنخرط في تحالفاتٍ إقليميّة معيّنة، ربما تثير الشّكوك أكثر مما تدعو للارتياح.
ومع ذلك كلّه، فإنّ دواعي الإنصاف تفرض الاعتراف بأنّ المقاومة، حتى وهي على صورتها الرّاهنة، استطاعت أن تُلحق بالعدو أذًى واضحًا وأن تعمّق من أزمته الوجوديّة، وهو ما يقودنا إلى الحديث عن المأزق الثّاني في المشهد الرّاهن، أي مأزق الكيان الصّهيوني.
لقد سبق وتناول كاتب هذه السطور بالشّرح، الكثير من الحقائق التي تؤكّد أنّ كيان العدو يعاني فعلًا من أزماتٍ وجوديّة كثيرة أجّجها وفاقمها انزلاقه السّريع واندفاعه الأعمى تحت وطأة ضربات المقاومة، إلى ممارسة نوعٍ فاجرٍ ومتوحّشٍ جدًّا من الإجرام الذي بدوره وضعَه على بداية طريق النّهاية الحتميّة لمشروعه العنصري، ومن ثمّ ظهور أدلّة ماديّة واضحة تشي بتآكل كلّ قدرة لديه على استمرار الوجود في المجتمعَيْن الإنساني والدّولي.
فأما الحقائق التي تقطع بتلك النّهاية الحتميّة للكيان الصّهيوني فلستُ أرى داعيًا لتكرارها، لكنّي سأترك السّطور الباقية للمؤرّخ اليهودي البروفيسّور "إيلان بابيه" الذي يُعدّ واحدًا من أبرز أعضاء تيّار "المؤرّخون الجدد" الّذين أعلنوا، قبل سنوات، التمرّد على مدرسةٍ في دراسة التّاريخ التزم منتسبوها بالأساطير والخرافات التّلموديّة والتّوراتيّة وأطلقوا على أنفسهم اسم "مؤرّخو التّوراة"، ومن ثم صنعوا سرديّات تاريخيّة مزوّرة وكاذبة تخدم على نحو فجّ المشروع الصّهيوني في فلسطين المحتلّة.
هذا المؤرّخ النّزيه الذي اضطهدته وطاردته سلطات العدو حتى أجبرته على ترك فلسطين المحتلّة، نَشر قبل أشهر قليلة مقالًا مهمًّا جدًّا عنوانه "انهيار الصّهيونيّة" تنبّأ فيه بتحلّل وزوال الكيان الصّهيوني، وإليكم بعض المقتطفات مما جاء في المقال:
"... يمكن تشبيه هجوم حركة حماس في السّابع من أكتوبر بزلزالٍ ضرب مبنًى قديمًا متصدّعًا أصلًا... لقد كانت الصّدوع والتشقّقات مرئيّةً بوضوح وتطاول أساس هذا المبنى الصّهيوني القائم بالقوّة على أرض بلدٍ عربي".
"... انهيار (المشروع الصّهيوني) باتت علاماته الآن واضحةً للعيان أكثر من أي وقت مضى... نحن على أعتاب مرحلةٍ خطيرة ستُفضي حتمًا إلى زوال الإيديولوجيّة الصّهيونيّة كفكرة عنصريّة تستند إلى خرافات".
مأزقنا حقيقي ومؤلم لكنّه مرحلي وسينتهي بانتهاء أسبابه
"ربما تدرك النّخبة الصّهيونيّة المتطرّفة الحاكمة حاليًا في إسرائيل هذه الأزمة الوجوديّة، لكنّها تردّ بسلوكٍ يشبه ما فعله نظام الفصل العنصريّ الجنوب أفريقي في أواخر أيامه، أي إطلاق العنان للقوّة العمياء الغاشمة، ولا تتورّع عن ارتكاب كلّ الجرائم لاحتواء الأمر، غير أنّ ذلك لن يؤدّي إلّا إلى تعميق الأزمة وتسريع النّهاية".
هذا مختصر ما قاله إيلان بابيه في مقاله، أمّا خلاصة ما نريد قوله فهو: أنّ مأزقنا حقيقي ومؤلم حقًا لكنّه مرحلي وسينتهي بانتهاء أسبابه، أما مأزق العدو فله طبيعة استراتيجيّة ونهايته حتميّة، إذ سيزول كيانه إن لم يكن اليوم فغدًا.
(خاص "عروبة 22")