طبعًا ما ظهر حتّى الآن من ملامِح المَشْهد يُثير مِن الخَوْف والقَلَق أكثر كثيرًا ممّا يدعو إلى الارتياح، على الرّغم من شعورِ البَهْجة بخلاصِ الشّعب السّوري من نظامٍ دمويٍّ عاتٍ وفاسدٍ جدًّا، تَخطّى حدودَ الطّغيان والدّيكتاتوريّة واسْتَحال مجرّد عصابة مجرمين لا تتورّع عن ارتكاب أشدّ الجرائم خِسَّةً وفظاعةً وقد تراكمت ارتكاباتها بطول الزّمن فتخرّبت أهمّ مؤسّسات الدّولة ولحِقَ أذًى هائلًا بالمجتمع، ربّما أخطر تجلّياته حرمان هذا المجتمع من أثْمن قدراتِه البشريّة وسحْق وتهْميش أفضل عناصر نُخبته الوطنيّة.
كل ذلك أفضى بدوره إلى إجْهاض الحِراك الشّعبي السّلمي مُبكّرًا، وتحوّله بسرعة إلى ما يشبه مباراة دمويّة بَيْن مُجرمين وصراع بالنّار بيْن عصابَة الحُكْم وعِصابات أخرى أكثرُها ظلامي إرهابي تكفيري، والكثير منها محضُ قطعانٍ من عُملاء ومُرتزقة هم خليط من أجناس وأصناف مختلفة باختلاف صُنَّاعِها سواء كانت قوى إقليميّة أو عالميّة على رأسهم جميعًا الحِلف الصّهيوني ـ الأميركي. هؤلاء جميعًا سرعان ما حَيَّدوا جُموع الشّعب السّوري واتّخذوا حراكه الثّوري مناسبةً لصنع مهرجانٍ فوْضوي دموي عارم نصبوه فوق رُكام الوطن وعلى أشلاء مئات الآلاف من أبنائه.
نُظُمِ حكمٍ ديكتاتوريّة بعضُها أقرب لعصاباتِ الجريمة أدت إلى تدمير أقطار عربية وخصم قوّتها من رصيد الأمّة
غير أنّ الفرحةَ بسقوط رأس النّظام وفرار بشّار الأسد من دمشق على نحوٍ مُزْرٍ يَليق بعهدِه الذي بدأ بِوراثة الحُكْم من أبيه وانتهى بفضيحة الهروب كـ"الصّوص" من دون أنْ ينطقَ ولو بِبِضْعِ كلماتٍ (كاذبة طبعًا) يوجّهُها لشعبِه الذي أذاقه كلّ صُنوف المُرّ والعذاب، هذه الفرحة لم تقوَ على حجْب دواعي وأسباب القلق والخوْف من نوع البَديل المَجهول الذي قد ينتظرُ مستقبل سوريا في المرحلةِ المُقبلة.
الكيان الصّهيوني من جانبه، اغتنم بسرعة مدهِشة فرصة سقوط نظام الأسد البائِد وحال الفوضى وضَعْضَعَة أهمّ مؤسّسات الدّولة، وأقدَم على تدْمير وتخْريب كلّ ما تبقّى من مقدّرات للجيش السّوري، بل وذهب بعيدًا في العرْبدة الإجْراميّة فقضَم واحتلّ خلال ساعاتٍ قليلة المزيد من الأراضي السّورية.
إنّ ما هيَّج مشاعر الخوْف في النّفوس واستدعى كلّ أسباب القلق والخوف على هذا القطر العربي العزيز، أنّ ما قام به العدوّ من عرْبدة واستباحة للتّراب الوطني السّوري تمّ كلّه تحت ظلالِ صمتٍ مُريب وخرسٍ تامّ من هؤلاء الذين آلت إليهم كراسي الحُكْم الفارِغة في دمشق، وكأنّ ما فعله العدو جرى في كوكبٍ بعيد، وليس على أرض وطنٍ يتأهّبون لحُكْمِه!.
على كلّ حال، هذه السّطور ليست معنيّة بتخْمين وترْجيح الصّورة التي سيكون عليها شكل المستقبل القريب في سوريا، وإنّما هدفُها التّنبيه ولفت النّظر إلى خطورة ترْك أغلب أقطارِنا العربيّة نهبًا لنُظم حكْم ديكتاتوريّة فاسِدة أكَل الدّهْر عليها وشرب وما زالت مُتمدّدة فوق صُدور شُعوبها تنْحر بقسْوة في بُنيان مُجتمعاتِها، بل وتقوّض أرْكان مؤسّسات دُوَلِها.
الدّيكتاتوريّة والأنظمة القمْعية هي أقصر الطّرق للهزيمة أمام أي عدوّ
إنّ الدّرس السّوري على قسْوتِه وبلاغتِه، ليس ـ بكلّ أسف ـ الدّرْسَ الأوّل، وإنّما سبقته دروسٌ أتتْ من أقطارٍ عربيّة أخرى مهمّة وخطيرة (العراق، ليبيا، تونس، السّودان، مصر) أدّى بقاؤها جميعًا لسنين وعقودٍ طويلة تحْت ثِقل نُظُمِ حكمٍ ديكتاتوريّة عاتيّة بعضُها أقرب لعصاباتِ الجريمة، إلى تدمير هذه الأقطار كلّيًا أو جزئِيًا ومن ثُمّ خصم قوّتها الهائِلة من رصيد الأمّة فصارت هذه الأخيرة على صورتِها البائِسة الرّاهنة تشبه حال حَمَلٍ وديعٍ تنهَش في لحمِه الطّريّ وحوش الدّنيا من إمبرياليّين وصهايِنة، ووحوش أخرى صغيرة يُداعِب أحلامها المريضة أوهام إمكانيّة استعادة أمجاد إمبراطوريّة غارِبَة.
خُلاصة القول إنّ الحرّيّة والدّيموقراطيّة الحقيقيّة، ليست فقط شرطًا لازمًا لجودة حياة البشر وحقّهم في التّمتّع بالحرّيّة والعدالة والرّفاه والكرامة الإنسانيّة في مجتمعاتِهم، وإنّما هي أيضًا أحد أسباب القوّة وأهمّ مؤهّلات القدرة على حفظِ مناعةِ أمن البلاد القومي وصيانة سلامة التّراب الوطني... أما الدّيكتاتوريّة والأنظمة القمْعية فهي أخطر ما يواجه أمن الوطن وأقصر الطّرق للهزيمة أمام أي عدوّ.
(خاص "عروبة 22")