من هنا، فإنَّ مبدأَ الحفاظِ على الدَّولةِ مشْروع، وهوَ الخيارُ الذي يُنقذُ أيّ مُجتمعٍ من مخاطرَ كثيرةٍ نتيجةَ سُقوطِها، ولكنَّ هذا السُّقوط لن ينجحَ بِسببِ المؤامراتِ أو التَّدخُّلاتِ الخَارجيَّةِ في حالِ كانَت الدَّولةُ تتمتَّعُ بحدٍّ أدنى من العَدالةِ والكَفاءةِ واحتِرامِ القَانون.
المُؤَكَّدُ أنَّ تَجْربةَ التَّغييرِ في سوريا هي مؤشرٌ حاسِمٌ إلى فَشَلِ التَّصوُّرِ الأوَّلِ الذي يَرى أنَّ الدَّولةَ كِيانٌ "مُقدَّسٌ" لا يُمَسُّ، وأنَّه يَجبُ الدِّفاع عنها ظالِمة أو مَظلومة، فحين تَحوَّلت إلى "مافيا" وأصبحَت لا تَمتلكُ إلا أدَواتِ القَمْعِ والقَهْرِ كان سقوطُها حَتْمِيًّا بفعلِ "عواملِ التَّعْرِيَة" الدَّاخِليَّة.
تمسَّكَ قطاعٌ من المُثَقَّفين العرب بِسرديَّة أنَّ سوريا "دولة مُمانعة" يجب دعمُها ولم يهتمّوا ما إذا كانت ظالمة أم لا
ولذا لم يَندَهِش الكثيرون من انهيارِ الدَّولةِ في سوريا وفي القلْبِ مِنها الجيش في أقلّ من 10 أيّام أمامَ هجومِ الفَصَائِلِ المُسَلَّحة، فعلى الرَّغم من التَّرْويجِ لنَظَرِيَّاتِ المُؤامرة ودورِ القوى الخارجيَّة التي هَندَسَت التَّغيير، من أميركا إلى إسرائيل ومن تركيا إلى بعضِ الدُّوَلِ العربيَّة، فإنَّ المؤكَّدَ أنَّ الدَّورَ الخَارجي مُتَمَثِلًا في دعم تركيا للفصَائلِ المُسَلّحَة كانَ مُهِمًّا، ولكنَّه لم يكن سينجحُ ما لم تَكُن الدَّوْلةُ قد تَماهَت تَمامًا مع النِّظامِ بل وأصبَحت مُؤسَّساتُها مجرَّد ذراع قمْعيّ لحُكم بشّار الأسد، وفقدَ الاثنان شرعيَّتَهما الأخلاقيَّة وأساسَ وجودِهِما وكان سقوطُهُما حتْميًّا بعد 14 عامًا من الانتفاضةِ السُّوريَّةِ، والتي لمْ تُقدِّم فيها الدَّولَةُ للشَّعبِ إلّا القتْل والبَراميلَ المُتفجِّرة والخَرَابَ الاقتصَادي.
الدَّولةُ والنِّظامُ في سوريا ساهمَا بشكلٍ أساسِي في تَحويلِ الانتفَاضةِ الشَّعبيَّةِ السِّلميَّةِ ضِدَّ النِّظام إلى انتِفاضَةٍ مُسلَّحَةٍ ودَفَعَا آلاف السّوريّين إلى حمْل السِّلاحِ بعد أنْ ذَبَحَا النّاسَ في الشَّوارِع لمُشارَكتِهم في احتِجاجاتٍ سِلْميَّة.
وقد تمسَّكَ قطاعٌ من المُثَقَّفين العَرَب بِسَرديَّةِ أنَّ سوريا "دولة مُمانعة" يجبُ دعمُها والمحافظةُ عليْها ولم يهْتمّوا ما إذا كانَت ظالمةً أم لا؟ تَقْهَرُ النَّاسَ أم لا؟ تقومُ بواجباتِها في الصِّحَّةِ والتَّعليمِ والخِدْماتِ أم لا؟ تُمَيِّزُ بين مُواطِنيها أم لا؟ ترتكب جرائمَ بحقِّ السّوريّين واللّبنانيّين أم لا؟ كلُّ هذه تساؤلات لم يَهْتَم بِها البعض في مقابِل الحِفاظِ على "دولةِ المُمانعةِ" والتَّرويجِ بأنَّ سقوطَ الدَّولةِ يعني انتشارَ الإرهاب والفوضى والاقتِتال الأهلي.
الدولة تسقُط بفعل عوامِل داخليَّة وإذا تدخَّل الخارج فإنَّه يأتي لكتابة شهادة الوفاة التي أعلنَها الشَّعب
الحقيقة أنَّ رسالةَ سوريا تقولُ إنَّه لا يُمكنُ أنْ تَستمرَّ دَولةٌ ظَالمةٌ مهما كانت الشِّعارات التي ترفعُها، وسُقوطُها حتْمِي بخاصَّة حين تفشلُ في اختبار ليس فقط الدّيموقراطيَّة ودولة القَانون إنَّما في العدالةِ والإنجَازِ الاقتصَادي وحتَّى المُقاومة التي لم تَحْمِل مِنْهَا إلّا الشِّعارات ولم تدْخُل في مُواجَهةٍ واحِدةٍ مع إسرائيل طوَال عهدِ بشّار الأسد.
إنَّ سُقوطَ الدَّوْلةِ الظَّالِمةِ سيتمُّ بسَببِ أوضاعِها الدَّاخِلِيَّة وفَشَلِها في تقديمِ الحدِّ الأدنى من الحياةِ الكريمةِ لمواطِنيها وليس بسببِ المُؤامراتِ الخارجيَّةِ كما يتصوَّرُ البعض، فَلَوْ كان لدى دولة بشّار حدًّا أدنى من الشَّرْعيَّةِ والقَبولِ الشَّعبي لدى السّوريّين لما سَقطَت في أيام بعد أن فقدَت رصيدَها لدى الشَّعب على مَدارِ عَقْدٍ من الزَّمان.
لقد قَدَّمَت سوريا رسالةً لكثيرٍ مِن الدّولِ العربيَّةِ أنَّ الدَّولةَ ليْست كِيَانًا أبَديًّا إنَّما هو يَضعُفُ ويَشيخُ ويَموتُ أو يَسقطُ أيضًا، ولكي تَحيا الدَّولةُ فلا بُدَّ من شُروطِ العدلِ والكفاءة، وبالتَّالي فإنَّ الرِّهانَ على الدَّولةِ الظَّالمة باعتبارِها أقلَّ خَطرًا أو سوءًا من البَدائِل الأخرى ثَبَتَ خطأه في الواقع العَمَلِي.
الحقيقة أنَّ الدولة تسقُط بفعلِ عوامِل داخليَّة، وإذا تدخَّل الخارجُ فإنَّه يأتي لكتابةِ شهادةِ الوفاةِ التي أعلنَها الشَّعب أوَّلًا حين اعتبرَ أنَّ الدولةَ عبءٌ عليه وليست خَادِمَةً لِمَصالحه.
رسالةُ سوريا للعالمِ العربي تقول إنَّ سُقوطَ الدَّولة حتْميٌ في حال فقدَت قُدرتَها على أداء وظائِفِها
الحفاظ على الدَّولة وإصلاحُها شَرْطَان مُتَلازِمان حتَّى تستطيع أن تواجِهَ التَّحِدِّيّاتِ، خصوصًا أنَّ البديلَ الذي جاء في سوريا، بدا في أعيُن غالبيَّةِ الشَّعبِ السّوري أفضلَ من "دولة بشّار"، فمَن يتصوَّرُ أنَّ الفصَائلَ المُسلَحَة أَسقَطَت بدعمٍ خارِجي تركي دولةً عادلةً ومُنْجِزَةً وَاهِم، إنَّما أَسقَطَت دولةً ظالمةً مُتكبِّرةً بِلا حاضِنةٍ شعبيَّة.
ستبقى رسالةُ سوريا للعالمِ العربي ولدولِ المنطقةِ تقول إنَّ سُقوطَ الدَّولة حتْميٌ في حال فقدَت قُدرتَها على أداءِ الحَدِّ الأدْنَى من وَظائفِها، وإنَّ هذا السُّقوطَ قد يكونُ في بعْضِ الحالاتِ نتيجةَ تفكُّكٍ وانهيارٍ داخلِي، أو نتيجةَ ثورةٍ شعبيَّةٍ أو مُسلّحةٍ، وإنَّه ليس بالضَّرورةِ أن يكونَ البديل لسقوط الدَّولةِ الظَّالمة أسْوَأ مِنها.
(خاص "عروبة 22")