تقدير موقف

حرائق كاليفورنيا من منظورٍ عربي بين رواية "الانتقام الإلهي" و"التأثير المناخي"

تفاعلَ آلاف المُستخدِمين لمواقع التواصل الاجتماعي من دولٍ عربيةٍ عدّة، ومنهم قادة للرّأي العام، مع مشهد الحرائقِ في كاليفورنيا على أنّه "عقابٌ إلهيٌ" و"انتقام السماء" وربطوه بمأساةِ غزَّة، ممّا شكّل مناسبةً لظهور التّفسيرات الدّينية (قضاء وقدر أو غضب إلهي) أو التّفسيرات التّآمُرِيّة للكوارث الطبيعيّة (مؤامرة محلية أو دولية)، وهي تفسيراتٌ تحلّ محل التّفسيرات العقلانيّة التي تقف على الأسباب الحقيقيّة للكوارث.

حرائق كاليفورنيا من منظورٍ عربي 
بين رواية

معلومٌ أنّه في العالم العربي، تُلْقِي هذه التّفسيرات السابقة بالمسؤوليّة على قوى خفيّة (بشرية أو إلهية) وهي تقدّم خدمةً تبريريةً للحكومات حيث تُعفيها من المسؤوليّة والمُحاسبة عن كيفيّة إدارةِ المخاطر.

في المقابل، وفي العالَم الغربي على سبيل المثال، يربطون الكوارثَ الطّبيعية بالنشاطِ البشري الباعثِ للكرْبون الذي يتسبَّب في التغيّر المُناخي. وقد كانت حرائق كاليفورنيا فرصةً للنُشطاء البيئيّين لربْطها بالجفاف الذي شَهِدَتْهُ الولاية والذي تسبّب في نموِّ غطاءٍ نباتيٍّ هشٍّ قابلٍ للاشتعال بعد فترة رطوبةٍ عاليّةٍ خلال خريفَيْ 2023 و2024. كما كانت فرصةٌ للرئيس دونالد ترامب أن يُحَمِّلَ المسؤولية للحاكم الدّيموقراطي في الولاية، وحَمَّلَت في المقابِل المرشّحة السابقة كامالا هاريس المسؤولية لشركات التّأمين التي تخلّت عن تأمين النّاس، في حين قالت الوكالة الفيديرالية لإدارة الكوارث إنّها لا يمكن أن تدفعَ ما يكفي لإعادة بناء البيوت المدمَّرة.

باسم حماية تنوّع الغطاء النّباتي ترك النُّشطاء البيئيّون الأعشاب المَيْتَة من دون معالجة مما سهّل انتشار النّار

سنحاول في هذا المقال أن نقدّم مناقشةً نقديةً لهذا الجدل الأميركي حول أسباب حرائق كاليفورنيا حتى نستفيد عربيًا من هذا الجدل لنخرجَ باستنتاجاتٍ مفيدةٍ حول إدارة المخاطر والكوارث النّاتجة عنها حيث شهدت المنطقة في السّنوات الماضية العديد من الكوارث، من فيضانات ليبيا والإمارات، زلزال المغرب وحرائق الجزائر، من أجل إدارةٍ فعّالةٍ ملائمةٍ للمخاطر المقبلة.

التّفسيرات التي ربطت حرائق كاليفورنيا بالتّغيّر المُناخي جرى التّشكيك في صحّتِها حيث ظهر تقريرٌ في صحيفة "وول ستريت جورنال" أكد أنّ مناخ ولاية كاليفورنيا عرف حالةَ عدم استقرار بين جفافٍ شديدٍ ورطوبةٍ عاليةٍ في الماضي خلال الفترة الممتدّة ما بين 1896 و1923. وشهدت الولاية فترةَ جفافٍ كبيرٍ ما بين 1910 و1920 وهي مرحلة انبعاثات كربونية منخفضة.

في الواقع، ليس النشاط الصّناعي هو المسؤول عن نشوب الحرائق، ولكن نشاط النُّشطاء البيئيّين كان له دورٌ في اشتعال الحرائِق بسرعة لأنّهم باسم حماية تنوّع الغطاء النّباتي تركوا الأعشاب المَيْتَةَ من دون معالجةٍ مما سهّل انتشارَ النّار في الهشيم بسرعةٍ كبيرة.

المُناخ يتغيّر باستمرار، ولكن ليس بسبب تغيّرِ المناخ تنشب الحرائِق في الغابات والقرى والمدن، إنما بسبب التغيّرات السياسيّة التي جاءت بسياسيّين محليّين في ولاية كاليفورنيا كانت لهم خياراتٌ سياسيةٌ ساهمت في سوء إدارة الحرائق. ففي ميزانية 2024، لم تخصّص الولاية إلا 2.6 مليار دولار لمراقبة الغابات وحرائقها، بينما تمّ تخصيص ميزانية أضخم لدعم السيارات الكهربائية والطّاقات النّظيفة بلغت 14.7 مليارًا. هكذا تمّ تخصيص ميزانية أكبر للحدّ من الكربون مما يعني تخصيص ميزانية أقلّ لمواجهة الحرائق.

في المقابل، اتّهم الديموقراطيّون من أمثال كامالا هاريس قطاع شركاتِ التّأمين بأنّها كانت أنانيةً ولم تشاركْ النّاس المخاطر حيث إنّ العديد من شركات التّأمين كانت قد ألغت التّأمين لبيوت الكثير من السكنات، كما أوقفت شركة التّأمين المحلية "فارم" 72 ألف عقد تأمين وعلّقت 7 من 12 شركة تأمين في الولاية عقودَها مع الزّبائن بحيث ارتفعت أسعار العقود التّأمينية من 40 إلى 80 بالمئة، كما تخلّت الشركات التّأمينية عن 2.8 مليونًا من الزبائن في الولاية بسبب صعوباتٍ ماليةٍ خاصّةٍ أدّت بها إلى العجز أو الإفلاس بسبب ارتفاع تكاليف التّعويضات وضعف شراء الأقساط التّأمينية.

علينا أن نركِّزَ في العالم العربي أكثر على تغيير السّياسات وليس على تغيّر المُناخ

علينا أن نتوقّفَ هنا عند مسؤولية شركات التّأمين في الولاية، ولماذا تراجعت عن بيع الأقساط التّأمينية للسكّان؟. يعود السبب لدورِ الحكومة المحلّية في ولاية كاليفورنيا التي أصدرت تشريعاتٍ حمائيّةً لصالح الزّبائن تفرض سقوفًا سعرية على قيمة الأقساط التّأمينية التي لا ينبغي أن تتجاوزَها شركات التّأمين، مما ترتّب عنه انسحاب تلك الشركات من السّوق بسبب ذلك التدخل الحكومي في سوق التّأمينات، كما فرَض عليها أن تبيع أقساطًا منخفضةَ الأسعار لا تغطّي التّكاليف الكبيرة التي ستدفعها للمتضرّرين من الحرائق، وهي مخاطرُ مؤكَّدة جدًا. هكذا أدّت رغبةُ الحكومة في حماية المستهلكين ضدّ أسعار السّوق إلى الإضرارِ بهم في النّهاية وترَكَتْهُم من دون تأمين.

علينا أن نركِّزَ في العالم العربي أكثر على تغيير السّياسات وليس على تغيّر المُناخ، لأنَّ سياسات مواجهة التغيّر المناخي تؤدّي إلى وقف النّمو الصناعي، وبالتالي تؤدّي إلى خفض النّاتج المحلي للفرْد.

معلوم أنَّ المجتمعاتِ الغنيّة ذات الدّخل المرتفع لديها القدرة على تحمُّل تكاليف مواجهة المخاطر، أكثر من المجتمعات الفقيرة ذات الدّخل المُنخفض. وعمومًا، تتسبّب الكوارثُ الطبيعة في المجتمعات ذات الدّخل المُنخفض في الأضرارِ البشريةِ أكثر بينما تتسبّب الكوارث في المجتمعات الغنية في الاضرار المادّية.

شركات التّأمين وإعادة التّأمين لديها الإدارة الفعّالة والحوافز الاقتصادية التي تساعدنا على مواجهة المخاطر

قد تكون كلفةُ حرائق كاليفورنيا ناهزت 150 مليار دولار وتوفي بسببها عددًا من الأشخاص للأسف، في حين تسبّب زلزالٌ كبيرٌ ضرب الهند وباكستان بأكثر من 730 ألف ضحيةٍ في الماضي، بينما تسبّب إعصارُ كاترينا في تضرّر 1500 ضحية سنة 2005. هنا الفروق في الدّخل القومي بين الأمم تفسِّر الفروق في عَدَدِ الضحايا وحجْم الأضرار.

للبلدان العربية الغنيّة القدرات أكثر من البلدان العربية الفقيرة والمتوسّطة لمواجهة المخاطِر الطبيعية، لكن عليها أن تسمحَ أكثر لشركات التّأمين وإعادة التّأمين بالعملِ في حريةٍ تجاريةٍ لأنّه لديها المعرفة المهنيّة والإدارة الفعّالة والحوافز الاقتصادية التي تساعدنا على مواجهة المخاطِر الطبيعية أو غير الطبيعية في المستقبل.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن