الاقتصاد العربي.. وضرورات التكامل

هل الاتحاد الأوروبي نموذج صالح للتّكامل العربي؟ (3/3)

استكمالًا لهذا المقال، بجزئه الأوّل وجزئه الثّاني، نطرح في ختام هذه السلسلة سؤالًا محوريًا: ما هي أفضل السُّبل لتحقيق التكامل العربي؟ والمضي في ذلك بطريقة تبتعد عن إخفاقات الماضي؟.

هل الاتحاد الأوروبي نموذج صالح للتّكامل العربي؟ (3/3)

في ضوء تجربة الاتحاد الأوروبّي، نقترح عمليةً من 4 خطوات:

أولًا، من المنطِقي أن نبدأ من حيث النجاح، وهو مجلس التّعاون الخليجي. وبما أن الثّقل الاقتصادي والسياسي في العالم العربي قد انتقل من المشْرق العربي إلى الخليج، فإنّ مجلس التعاون الخليجي هو الذي يجب أن يكون نواةَ التّكامل العربي؛ وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ مجلس التعاون الخليجي هو الكتلة التي قطعت شوطًا أبعد في التكامل - السّوق المشتركة - ولديه الخبرة الفنية والمؤسَّسية في إحداث التكامل، كما أنها المجموعة الأغنى في العالم العربي، وبالتالي يمكنها تحويل أموالِ التّماسك/التّنمية إلى الدول العربية الفقيرة من أجل تعزيز التكامل.

كما تُظهر تجربة الاتحاد الأوروبّي فإنّ وضع التّكامل السياسي في المقعد الخلفي يجنِّبنا المشاكل المتعلقة بالسّيادة 

من الناحية الهيكلية الاقتصادية، لم يعد مجلس التعاون الخليجي اقتصادًا نفطيًّا بحتًا، حيث نجح في التّنويع نحو الخدمات والصناعة والتِّكنولوجيا، بخاصة في دولتَيْه القويتَيْن، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة (على سبيل المثال، بلغ النّاتج المحلي الإجمالي للمملكة العربية السعودية 1.1 تريليون في عام 2024).

ثانيًا، يجب أن يتمَّ التوسيع على مراحِل كما هي الحال في الاتحاد الأوروبّي. بدايةً، يمكن لمجلس التعاون الخليجي توسيع اتفاقية منطقة التّجارة الحرّة/الاتحاد الجمركي لتشمل العراق والأردن وربّما لبنان. واستنادًا إلى نجاح هذا التوسيع، يمكنُ المضي قدمًا فيه من خلال رفع مستوى هذا التّرتيب إلى سوقٍ مشتركة، بالإضافة إلى توسيع اتفاقية التجارة الحرّة/الاتحاد الجمركي ليشمل تونس والمغرب وربّما مصر. وهكذا دواليْك. والفكرة هي أنّ الاندماجَ يجب أن يتعمّق أكثر قبل أن يتّسعَ نطاقه، والتّكامل متعدّد السّرعات يمكن أن يضمنَ ذلك.

ثالثًا، يجب أن يسير التكامل السياسي بوتيرةٍ أبطَأ من التكامل الاقتصادي. وكما تُظهر تجربة الاتحاد الأوروبّي بوضوح، فإنّ وضع التّكامل السياسي في المقعد الخلفي يجنِّبنا المشاكل/المنازعات المتعلقة بالسّيادة، وأسبقيّة "الاتحاد" على قانون الدولة، والتحالفات والعلاقات الخارجية، أو باختصار المسائِل المتعلّقة بـ "إسنادِ السلطة" (أنظر الحاشية [5] في الجزء الأول من هذا المقال).

بالإضافة إلى ذلك، من حيث هيكلية الحكْم، سيتمّ إعفاء جامعة الدول العربية من مهامها الاقتصادية. وبدلًا من ذلك، سيتمّ إنشاء هيكلٍ مماثلٍ لهيكل الاتحاد الأوروبّي من حيث المفوّضية الأوروبية والمجلس الأوروبي (باستثناء البرلمان الأوروبي)، ولكن بشكلٍ مبسَّط، وسيكون مقرّه في المملكة العربية السّعودية/الإمارات العربية المتّحدة.

العالم العربي لديه هوية مشتركة لذا ينبغي أن يكون التقارب الثقافي عنصرًا مؤاتيًا في التكامل

رابعًا، ما يمكن أن يتراجعَ أيضًا هو الاتحاد النّقدي. ويبدو أن الاتحاد الأوروبّي لم يستفِد كثيرًا من هذا التّرتيب من دون اتحادٍ مالي تعويضي لأنّه حرم الدول الأعضاء من سياسةٍ نقديةٍ مستقلّة، ويمكنُ للعالم العربي أن يتخطّى هذا الترتيب لأطول فترة ممكنة. صحيحٌ أنّ معظمَ الدول العربية - بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي - تربط أسعار صرفها بالدولار الأميركي وبالتالي لا تملك، بحكْم الأمر الواقع، سياسةً نقديةً مستقلةً أيضًا[1]، ولكن ذلك تمّ إراديًا لأنَّ التّركيبة الحالية لاقتصاداتها تُحَتِّمُ ذلك. مع ذلك، ومع تقدّم التكامل واكتساب الزّخم، فإنَّ الاتحاد النّقدي بعملةٍ خاصةٍ به سيحتلّ المقعد الأمامي لاإراديًا، ولكن ينبغي أن يكون ذلك جزءًا من اتحادٍ ماليٍ وسياسيٍ يتوِّج التكامل العربي على المدى البعيد جدًا. هذا لا يمنع المضي بتكاملِ الأسواق الرّأسماليّة والماليّة العربيّة ضمن السوق المشتركة، والتي ستؤدّي إلى تمكين دبي أو الرياض من البروزِ كمركزٍ مالي إقليمي على مستوى سنغافورة.

تجدر الإشارة أيضًا إلى نقطتَيْن إضافيتَيْن، الأولى تحذيريّة والثانية إيجابيّة:

أولاً، يجب أن يسير الاندماج بلمسةٍ تنظيميةٍ خفيفةٍ حتى لا يخنق الابتكار ويخلق عقباتٍ أمام الأعمال التجاريّة، كما كانت الحال على الأرجح مع الاتحاد الأوروبّي في ما يتعلق بالنّمو التكنولوجي؛ ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال التّراخي في تطبيقِ اللوائح التنظيمية.

ثانياً، على عكس الاتحاد الأوروبّي الذي يفتقِر إلى هُوية مشتركة، فإنَّ العالم العربي لديه هوية مشتركة. فالشُعوب العربية تشترك في اللغة عينها، والدّين نفسه في الغالب، والتاريخ ذاته إلى حدٍّ كبير، لذا ينبغي أن يكون هذا التقارب الثقافي عنصرًا مؤاتيًا في التكامل، إذ يساعد على تليين العملية وترسيخ إنجازاتها.

على الدول العربية أن تصبح أكثر تطورًا من خلال إصلاحات هيكليّة ورأسمال بشري مُنتِج وتغيير تكنولوجي واقتصاد ليبيرالي

أخيرًا، إنّ عملية التكامل العربي ليست سهلةً بأي حال من الأحوال وإلّا لما فشِلَت في الماضي. لقد كان لدى دول أوروبا الغربيّة على مدى 500 عام معالم مفصليّة تمثّلت بالنهضة والتنوير والثورات الصناعية والتكنولوجية - وبالطبع، تاريخ استعماري مُسيء - لتستفيد منها عندما بدأت مشروعها الأوروبّي في الخمسينيّات من القرن العشرين. وهذا ما جعلها، على الرَّغم من الحربَيْن العالميّتيْن، وارثةً لتراثٍ غنيٍ مكّنها من بناء اقتصاداتٍ هائلةٍ وديموقراطياتٍ ليبيراليةٍ في نهاية المطاف، مما جعل التكامل أسهل، خصوصّا أنّ التكامل عادةً ما يكون أكثر نجاحًا بين الاقتصادات المتساوية في القوّة. وللأسف، لم يكن العالم العربي يملكُ مثل هذا "التّراث" عندما خرج من ماضيه الاستعماري وشرع في طريقه المستقلّ في الخمسينيّات[2] من القرن الماضي.

لذا، ولكي ينجح التّكامل العربي، وفي الحقيقة إنَّ الشرط الكافي، هو أنّه على الدول العربية أن تعملَ بجدِّية أكبر وأن تصبح أكثر تطورًا من خلال إصلاحاتٍ هيكليّةٍ حقيقيّةٍ وعاداتٍ فكريةٍ وممارساتٍ تحابي الحكمَ الرّشيد، ورأس المال البشري المُنتِج، والتغيير التكنولوجي الهادِف، والاقتصاد والمجتمع المنفتِح والليبيرالي.. وعندها لن تكون النتيجة عظيمةً للتّكامل فحسب، بل ستكون النتيجة عظيمةً ومستدامةً للرّفاهية والازدهار العربي.


لقراءة الجزء الأول - الجزء الثاني

 



[1] ذلك بسبب "الثالوث المستحيل": مع وجود حرية كاملة لتحرّكات رأس المال وأسعار صرف ثابتة، تتخلّى البنوك المركزية عن سياستها النّقدية المستقلة.

[2] هذا لا يعني أن العرب يفتقرون إلى تراث حقيقي؛ بالطبع لديهم تراث غني. لكن الفكرة هي أنه منذ أواخر القرن الحادي عشر، خضع العالم العربي لحكم سلالات غير عربية: أولًا الصليبيون، ثم الأيوبيون الأكراد، ثم المماليك القادمون من آسيا الوسطى، ثم الأتراك العثمانيون، وأخيرًا الأوروبيون الغربيون (الفرنسيون والإنكليز). هذا حَالَ دون ازدهار ونمو التراث العربي، خصوصاً خلال فترة حكم الدولة العثمانية التي استمرت 500 عام، والتي أُطلق عليها لقب "رجل أوروبّا المريض".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن