العرب وتحديات الذكاء الاصطناعي

العرب ونقدُ التِّكنولوجيا (2/2)النّموذج العربي المطلوب

ربما لا نختلفُ في ضرورةِ أن يكونَ للعربِ فلسفَة تقنيّة متميّزة، تُفَلْسِفُ واقعَهم وتمهّدُ لمستقبلِهم برؤيةٍ عِلميةٍ فاحِصَة. ولو أنّنا في واقعِ الأمرِ لا نملكُ صناعةً تقنيةً، ولا إنتاجًا معرفيًّا تقنيًّا مستقِلًّا!... لكنّنا مستهلِكون بامتياز للمُنتجاتِ الغربيّةِ التقنيّةِ المتنوّعةِ، وحريٌ بنا - مِن هذا المنحى، على الأقلّ - أن ندرسَ الوقائعَ، ونحلِّلَ المعطياتِ القائمةَ، ونقارِنَ بيْن الماضي والحاضرِ سواء في مسيرةِ التّاريخِ العربي أو العالمِي في هذا الشَّأن.

العرب ونقدُ التِّكنولوجيا (2/2)
النّموذج العربي المطلوب

منذُ أواخِر التسعينيّات، في دراستِنا لنقلِ وتوطينِ التِّكنولوجيا في التّنميةِ الصّناعيَّةِ، لاحظنا ضرورةَ أن يكونَ للعربِ نموذجٌ فكريٌ - تقنيٌ متميز paradigm))، يمثّلُ إطارًا نظريًّا للفهمِ والتفسير، والتصحيح، محمَّلًا بثقافتِنا العربيةِ ومقوّماتِها القويّة، لا بثقافةِ الغربِ المستوردةِ التي أصبحت تعبِّدُ طريقَ الهيمنةِ الثّقافيةِ على مجتمعاتِنا، وتؤثِّرُ في مشاريعِنا التنمويَّةِ وتوجّهُها خلافًا لطموحاتِنا وأهدافِنا المنشودة...

لا بُدَّ للعرب أن يأخذوا بزمام العلوم الحديثة بلغتِهم وفي إطار ثقافتهم والاستفادة من التِّكنولوجيا المتقدّمة

وإذا ما نظرنا جديًّا إلى موروثِ الأمّةِ العربيّةِ، تبرزُ مظاهرُ تعدُّدِيّةِ الثّقافةِ التي نَرِثُهَا، ولعلّها تشكِّلُ عبر التاريخ الإنساني أهمَّ ثقافةٍ متميزةٍ بمكانتِها الحضاريّةِ الخاصّة. ويكفي أنَّها وصلت العالمَ القديمَ بالعالمِ الحديثِ وأضافَت إليه من عقلِها وإبداعِها في شتّى المعارفِ والمجالات، فضلًا عن قوّةِ اللّغةِ العربيّةِ وإمكاناتها المتعدِّدَة، الشيءُ الذي يؤهِّلُها حقًّا أن تكونَ أهلًا لاستيعابِ حضارةِ العصرِ الذي شاركَت في التّأسيسِ له، وأهلًا للنّهوضِ بأعباءِ المعرفةِ والعلومِ الحديثة. ومن ثَمَّ، لا بُدَّ للعربِ أن يأخذوا بزمامِ العلومِ الحديثةِ بلغتِهم وفي إطارِ ثقافتِهم، تناغُمًا مع المُشْتَرَكِ الإنساني، وبخاصةٍ الاستفادة من التِّكنولوجيا المتقدّمةِ التي تتيحُ الوصول السّريع للمعلومات، وتسهِّلُ إمكاناتِ التعلّم وأداء المهمّات، وتكسرُ حاجزَ المسافة، وتُمَكِّنُ الاتصالَ والتواصلَ السّريع، وتسهمُ بقوّةٍ في زيادةِ الإنتاجيةِ والفعّالية والنّموّ الاقتصادي وخلقِ فرص عملٍ جديدة، وتطوّر الرعايةَ الصحيّة، وتُقَدِّمُ وسائلَ ترفيهٍ متنوّعة، إلخ.

مع ذلك، نحن نتقاسمُ مع بقيّةِ المجتمعاتِ ما يقعُ من أضرار ونتائج عيوبِ التّكنولوجيا المُنفلتةِ وغيْر المُقيّدةِ بأنظمةٍ ديموقراطيةٍ عادلة، مثل تكريسِ الاحتياجِ والإدمانِ التّقني، والمُعضلة الأخلاقيّة (ethical dilemma)، والتّجريد من الإنسانيّة (dehumanisation)، والتلوّث البيئي، وقضايا الخصوصيّة، وإزاحة الوظائِف... وتبقى هناكَ من عيوبِ التّكنولوجيا ما يخصُّنا وحدنا نحن العرب، في ظلّ اعتماِدنا على التّكنولوجيا المُسْتَوْرَدة، خصوصًا في مسائلِ الإدمان التّكنولوجي وتكريس دواعي التّبعيّة، والقضايا الأخلاقيّة، وتبنّي القيمِ الغربيةِ المُغايرةِ للقيمِ العربية، إلى جانب قضايا الخصوصيّة والهُويّة.

ما تقدّمَ يؤكِّدُ ضرورةَ أن يقفَ العربُ مع كلّ من ينتقد التّكنولوجيا المعاصِرة، وفي مواجهةِ ممارساتِها السّيئةِ وسوء استخدامِها، وتطبيقاتِها غير العادلةِ والمتحيّزةِ في مختلفِ المجالات، وأيًّا كان نوعُ هذه التّكنولوجيا... ذلك أنَّه من حقِّ العربِ اليوم، أن يفرضوا أنفسهم في الخيارِ التّكنولوجي، فثقافتُنا إحدى الثقافاتِ العالميةِ المهمّةِ المتضرّرةِ من سُلطةِ التّكنولوجيا الغربيّة، المُتحيّزة، والمُتَحكَّم فيها غربيًّا. بالإضافةِ إلى ضروراتٍ أخرى دافعة، مثل الضرورةِ السياسيّةِ المُتَرَكِّزةِ في التّوحُّشِ السّياسي والعسكري العالمي من قِبَلِ الدولِ التقنيةِ المتقدّمةِ ضدّ الإنسان الضعيف. والضرورة العلمية الحضارية التي تعني في هذا السّياق، توجيهَ البحثِ العلمي بقيمٍ إنسانيّةٍ، وأهميةَ مشاركةِ العلومِ الاجتماعيةِ في إنتاجِ التّكنولوجيا ووضعِ معايير إنسانيّة مشتركة لها. وأن تكونَ هناك إمكانية عمليةٌ ملموسةٌ للتطبيق السّياسي والعِلمي والحضاري للتّكنولوجيا في شتّى الميادين التي تخدمُ المجتمعاتِ البشريةَ على السَّواء، من دونِ تحيُّزٍ أو تغليبِ مصالحِ دولٍ بعينِها على أخرى؛ صونًا للحضارةِ والقيمِ الإنسانيةِ من خلالِ التحكّم التّقني القيمي الإنساني، وليس التحكّم المصلحي الخاصّ بدولٍ معيّنة.

لنبدأ، إذنْ، من أصولِنا النّقديّةِ المنهجيّةِ الرّاسخةِ في حضارتِنا العربيّةِ الإسلاميّة... والأمثلةُ كثيرةٌ؛ لعلّ أقربَها في إطارِ تعدُّدِ الاتجاهاتِ النّقديةِ والتحليلِ الموسَّع، والذي تأثّرَ به الغربيّون المُحدِّثون أنفسهم، يأتي مثالُ العلاّمة أبي محمد علي بن حزم الأندلسي (994-1064)، الذي أسَّسَ بقوّةٍ للمنهجِ النّقدي، خصوصًا حين انتقدَ التّوراةَ وراجعَها بمنظورٍ علمِي تأثَّرَ به مفكرو الغرب، كالفيلسوفِ العقلاني الهولندي اليهودي باروخ سبينوزا (1632-1677)، والمستشرقِ الألماني يوليوس فلهاوزن (1844-1918)، مؤرِّخ التوراة وناقد الكتابِ المقدّسِ في الغرب...

ابن حزم كان سبّاقًا في إيراد الملاحظات النقديّة المنهجيّة التي أدلى بها النقّاد في العصر الحديث

وكَشَفَتْ بعضُ الدّراساتِ أنَّ سبينوزا استخدم كثيرًا من عباراتِ ابن حزمٍ، وتوصَّل إلى نتائجِه النّقديّةِ عينِها في قراءتِهما للتّوراة، مع الفارقِ الزَّمني بينهُما، وتشيرُ إلى أنَّ النقَّادَ الغربيّين استخدموا منهجيّةَ ابن حزمٍ، الذي انتهجَ سياقَيْن في قراءتِه النّقديةِ للتّوراة؛ سياق النّقدِ الدّاخلي متتبّعًا النصوصَ من حيث اختلافِها وتناقضِها، وسياق النقدِ الخارجي باحثًا متأمِّلًا في الظروفِ العامّةِ والخاصّةِ التي وُضِعَ خلالَها النصُّ التّوراتي وحُفِظ، ونُقِل، بخاصة التاريخ السّياسي والدّيني لليهود، وكيف أثّرَ ذلك في اختلافِها وتناقضِها.

كما يرى المستشرقُ والقسّ الإنكليزي دايفيد صامويل مرغليوث (1844-1918)، أنّ "ابن حزم كان سبّاقًا في إيرادِ الملاحظاتِ النقديّةِ المنهجيّةِ التي أدلى بها النقّادُ في العصرِ الحديث". لقد اشتملَ نقدُ ابن حزمٍ على كلّ اتجاهاتِ النّقدِ الرئيسيّة، وأهمّها "النّقد النصّي والصّوَري والأدبي واللّغوي والتّاريخي والدّيني والأخْلاقي". (عن "الجزيرة نت"، 28/2/2018).

أخيرًا، نرى أنَّ المنهجَ النّقدي عند ابن حزم يتلخّصُ في ستِّ نقاطٍ رئيسيّة، يجدرُ مراعاتها وتكييفها في نقدِنا العربي للتّكنولوجيا الحديثةِ المستوردة، وهي:

1 - كشفُ وتَتَبُّعُ الاختلافاتِ والتّناقضاتِ الكامنةِ فيها.

2 - رَصْدُ ظروفِ إنتاجِها السياسيّةِ والاقتصاديّةِ والاجتماعيّةِ والثقافيّة، وقِيَمِها المُصَاحِبَة.

3 - المقارنةُ بين المصالحِ العربيّةِ والغربيّةِ التي تجلبُها، سياسيًّا وعسكريًّا وأمنيًّا ومدنيًّا.

4 - معرفةُ مدى تَوَفُّرِهَا على عوامل تُعزِّزُ إدمانَها والاعتمادَ عليها، ومؤثّراتها المجتمعيّة.

5 - معرفةُ كيف تُحتكرُ وفقَ شروطِ استخدامِها وهيمنتِها.

6 - فحصُ إمكانياتِ البديلِ التّكنولوجي العربي.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن