السؤال المحوري الذي تبع قضية تعيين سفير للسعودية في فلسطين يدور حول ماهية هذه الخطوة ورسالتها؟ السعودية عندما عينت سفيرها في الأردن ليكون سفيراً مفوضاً وفوق العادة لدى دولة فلسطين وقنصلاً عاماً للمملكة العربية السعودية في القدس عاصمة دولة فلسطين، فإن ذلك يعكس فلسفة دقيقة حول المساحات التي تتحرك بها السعودية فيما يخص الحق الفلسطيني الذي تتبنى فيه السعودية موقفاً صارماً لا يتغير، ألا وهو التمسك بقيام دولة فلسطينية على حدود 1967م وعاصمتها القدس الشرقية، وفق القرارات العربية والدولية.
هذا الموقف السعودي من الحق الفلسطيني ليس وليد اليوم، فبالعودة إلى لقاء الملك عبدالعزيز -رحمه الله- مع الرئيس الأمريكي روزفلت ندرك الصورة التاريخية التي رسمها مؤسس الدولة السعودية الثالثة عندما التقى مع أقوى رئيس أمريكي وهو الذي هزم هتلر وأصبح الرجل الأقوى في العالم، لم يكن الموقف السعودي متوارياً بل كان واضحاً وصريحاً وأسس لتاريخ استند إليه جميع ملوك السعودية، ومن يعتقد أنه يمكن نسف هذا التاريخ فيما يخص الموقف السعودي من القضية الفلسطينية فهو يعيش الوهم بكل تفاصيله.
السياسة السعودية تدرك المتغيرات الدولية وتدعم الشعب الفلسطيني لنيل كامل حقوقه بغض النظر عن المتغيرات السياسية في المنطقة العربية والإقليمية، وترفض بشكل تام كل مغامرات إسرائيل بقضم متتابع لا يتوقف للأراضي الفلسطينية، لأن ذلك وباعتراف دولي يعد انتهاكاً للمواثيق الدولية وميثاق الأمم المتحدة وقراراتها ذات الصلة وكل مبادئ القانون الدولي.
إسرائيل التي ارتبكت من القرار السعودي تدرك أن السعودية بسياساتها الهادئة والمتزنة تتعامل مع الموقف بشكل مختلف عن كل مثيلاتها في العالم العربي، فالسعودية تدرك حجم تاريخها كدولة مركزية في الشرق الأوسط تمتلك من المقومات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والعقدية ما لا تمتلكه أي دولة في العالم، فهي مركز المسلمين، ففيها الحرمان الشريفان، فالإسلام اليوم هو الديانة الوحيدة في العالم الذي يمتلك هذه المقدسات الموجودة على الأرض السعودية، كما أن الموقع الجغرافي للسعودية جعلها في قلب ممرات بحرية دولية مهمة، كما أنها الدولة الأكبر في إنتاج الطاقة وهي المتحكم الرئيس بأهم مقومات الاقتصاد العالمي، كل ذلك بجانب تاريخ طويل يمتد لثلاثة قرون.
إن ما استطاعت إسرائيل أن تمرره وفق مسارات تطبيع مع بعض الدول في المنطقة يستحيل تمريره على دولة مثل السعودية تدرك بعمق حجمها ومدى تأثيرها ومكانتها في العالم، وكما قال الأستاذ عبدالله المعلمي في إحدى محاضراته: "إن السعودية مهرها غالٍ" عندما سئل عن واقع موجة التطبيع التي تسود الإعلام والمنطقة، الرسالة الواضحة للدور السعودي تجاه القضية الفلسطينية تؤكد أن محاولة إذابة الحق الفلسطيني ومسحه من الوجود تحت مسارات الاستيطان والهدم والاستفزاز والقتل والتهجير لا يمكن قبوله، وعلى إسرائيل أن تبدي تحولات جذرية في سياستها في المنطقة إذا كانت تبحث عن هدف لوجودها وذلك عبر منح الفلسطينيين دولة تتناسب والقرارات الدولية الداعية إلى حل الدولتين.
إن فهم السعودية في سياق مبسط هو خطأ استراتيجي من الجانب الإسرائيلي، فالسعودية مختلفة عن كل من حولها؛ فهي لن تقبل بانحراف أهدافها تجاه القضية الفلسطينية تحت معطيات أو شروط أخرى خارج إطار إقامة دولة فلسطينية في المقام الأول، فطموحات السعودية - مهما كانت - فهي مشروعة ويمكن تحقيقها من خلال اتجاهات البوصلة الجغرافية الأربعة، الفكرة الرئيسة هنا أن ذلك لن يكون على حساب القضية الفلسطينية، فالعالم العربي بشعوبه أجمعين يدرك ما إسرائيل التي وجدت في المنطقة تحت ظروف دولية الجميع يعرفها.
إن رفض قيام دولة فلسطينية من المتطرفين في إسرائيل يساهم في تأجيج المواقف السياسية، وقد تتعرض المنطقة إلى انتكاسات شعبية كبرى مفاجئة تجبر الكثير من الحكومات التي بنت علاقاتها مع إسرائيل إلى تغيير موقفها والتصريح عكس الاتجاهات وخاصة مع التحولات التدريجية التي يشهدها النظام العالمي والتي يمكنها أن تؤدي إلى صعود قوى سياسية تغير في معادلات المنطقة.
وزير المالية الإسرائيلي زعيم الحزب الصهيوني الديني وعضو الكنيست عن ائتلاف البيت اليهودي قال الشهر الماضي: "إن حل الدولتين وصل إلى طريق مسدود وخيّر الفلسطينيين بين البقاء في دولة يهودية أو الهجرة أو مواجهة من يبدي مقاومة مسلحة بالرصاص"، إسرائيل مطالبة أن تتخلى عن أوهام إنتاج سيرتها الذاتية للعالم كدولة لها الحق في كل ما تمارسه بحق الفلسطينيين، فهذا الواقع لن يبقى طويلاً مع التحولات الدولية التي تحاول إسرائيل أن تسابق الزمن فيها من أجل تحقيق أهدافها الواضحة بالقضاء على كل أمل ممكن لقيام دولة فلسطينية مستقلة.
("الرياض")