كما هو الشأن دومًا في عمل اللغة وفي فعّاليتها (أقصد بذلك الصّلة القائمة بين اللفظ وبين المعنى)، فإنّ كثيرًا من سوء الفهم (ومن سوء الظنّ أيضًا) يتسرّب الى المتلقّي فيحدث الخلْط عنده بين دلالتَيْ الحقيقة واليقين معًا. يحدث ذلك في الحديث الشفوي، فهو يأتي عفوًا، مثلما يحصل في الخطاب الكتابي، فهو، في ظاهره، ثمرة رويّة وتفكير.
والملاحظ اليوم هو أنّ الصوَر والجُمل الجاهزة غدت تشغل من وعينا حيّزًا غير قليل لم تكن تشغلْه من قبل، حيّز لا يزال يتنامى ويعظم شأنه. لقد صارت الصور النمطية والجمل الجاهزة تحلّ محل التفكير والتأنّي اللذين يسبقان، في المعتاد، فعل الكتابة.
يُعادل وجودنا في العالم الافتراضي حضورنا في العالم الواقعي
حروف وكلمات مصوّرة نتناقلها بواسطة الحواسيب والهواتف "الذّكية". خطاب تامّ قوامه "رسائل" و"أيقونات" نتبادلها ثم نقوم بإشاعتها، في الأغلب الأعمّ من دون تردّد وتفكير، وإنّما نحن نمتثل لطلب التنفيذ الذي يكون مرافقًا لها أو متضمنًا فيها ("شير"، "لايك").
في زماننا هذا، زمن دمقرطة الوسائط الاجتماعية، أصبحت الصورة - الكلمة قوّة جبّارة -"سلطة" لا تُقهَر وسلاحًا يسهل امتلاكه والتلويح به مثلما يكون الامتثال أعمى لأوامره. ترقى الكلمة - الصورة إلى مرتبة القدسيّة فترى أنّ أثرها في النفوس، بل وفي العقول أيضًا، يبلغ رتبة تعطيل التفكير ذاته. تحاصرنا الصور - الكلمات بـ"حقائق" تملك، بفعل تداخل عوامل شتّى وتحت تأثير سيكولوجي صارم، مسلّمات وبديهيات لا تحتمل الشكّ.
لا إسراف في القول إننا قد غدوْنا (بل وأمسيْنا وأصبحْنا) نحيا في العالم الافتراضي زمنًا هو، بالنّسبة للكثير منّا، شبابًا ومن هم فوق سنّ الشباب أو دونه (أقولها آسفًا) على السواء. يُعادل وجودنا في العالم الافتراضي حضورنا في العالم الواقعي، بل لعلّ "الموازنة الزّمنية" التي تنفَق في العالم الأول تفوق تلك التي تُعتمَد في العالم الثاني. أكاد أقول إنّ "حقائق" العالم الافتراضي قد غدت، في زمان الذّكاء الاصطناعي، يقينًا لا يحتمل الشكّ، يزيح العالم الفعلي جانبًا، بل إنّه يلغيه.
التعلّم يعني أحيانًا كثيرة التخلّص من أخطاء معرفيّة وأوهام شائعة أكثر مما يعني تحصيل معارف جديدة
ربّما كانت عبارة "يقين لا يحتمل الشكّ" تفيد القول إنّ اليقين رتبة من المعرفة تعلو على الحقيقة وهذا صحيح، من أحد الوجوه. فاليقين حال سيكولوجية تتّصل بالمرء وتغمر الناظر الباحث، أما الحقيقة فهي "معرفة" تُكتسب عن طريق المنهج العلمي الملائم الذي يفضي إلى المعرفة.
غنيّ عن البيان أنّ "الحقيقة" طريق الوصول اليها هو العقل، إعمال العقل، فليست الحقائق العلمية تدرَك إلّا بعد تسليط "الأنوار الطبيعية للعقل" على موضوع المعرفة، وهذا الأمر يستوجب، بدورِه، اتباع الخطوات المنطقية والمراعاة الصارمة للشروط الضرورية لاكتساب المعرفة. ثم إنّ الدرس الأكبر الذي نفيده من المنهجيّة العلمية المعاصِرة ومن النّظر الثاقب في تاريخ العلوم وتطوّر المعارف هو أنّ التعلّم (وبالتالي طلب الحقيقة) يعني، أحيانًا كثيرة، التخلّص من أخطاء معرِفيّة ومن أوهام شائعة أكثر مما يعني تحصيل معارف جديدة. وإلى هاته الملاحظات يتعيّن الانتباه الى صفتيْن ذاتيّتيْن ملازمتيْن للعلم: النسبية من جهة، والتاريخية من جهة أخرى.
لا شيء في العلم ونظامه يجيز الحديث عن حقائق نهائية، قارة ومطلقة، وبالتالي لا شيء يجيز، في خطاب العلم، الاطمئنان إلى "يقين" تام ومطلق. لا وجود لليقين المطلق إلّا في الدّين وحده أو، بالأحرى، عند المؤمِن بالدّين المسلّم بأحكامه ومبادئه وليس عند مطلق البشر.
القرآن يدعو إلى إعمال العقل وإلى طلب العلم وسلوك الطرق والمناهج التي توصل إلى الحقائق العلمية
الحقيقة العِلمية ثمرة إعمال العقل وممارسة المنهج العلمي السليم، يلتقي في طلبها وفي سلوك الطريق الموصل إليها المؤمن وغير المؤمن. في وسْع كلّ أحد امتلك مؤهّلات ذاتية ونال من التعلّم حظًا أن يمتلكها، أن يجتهد في طلبها. أمّا اليقين الدّيني فحال نفسية يكون عليها المؤمن حال الوصف الأنسب في الحديث عنها هو "الطمأنينة"، وهذه ثمرة الإيمان وحده فلا دخل للعقل فيها وإنّما أنوار العقل قد تأتي، بكيفية بعدية، لتبرّرها وتسندها وهي، بالنّسبة إلينا، نحن أهل الإسلام، هبة من الله وهداية منه والقرآن الكريم، نور وطريق معًا.
والكتاب العزيز ليس كتاب علم ولا دائرة معارف علمية، فمضامين تلك متبدّلة وهو يعلو على التغيّر والتحوّل، وبالتالي على "التاريخيّة". والقرآن الكريم منزّه عن النسبية، وهي سمة المعرفة العلمية، أما هو فماهيته، الإطلاق التام غير أنّ القرآن كتاب يدعو إلى إعمال العقل وإلى طلب العلم وسلوك الطرق والمناهج التي توصل إلى الحقائق العلمية على شروطها.
(خاص "عروبة 22")