فلسطين... القضية والبوصلة

حنّة آرنت والتنبّؤ بانتحار "إسرائيل"!

إنّها حنّة آرنت (تـ1975) الفيلسوفة اليهودية الألمانية، وهي واحدة من أبرز المفكرين السياسيين في القرن العشرين، وُلدت في ألمانيا في عائلة يهودية، وقد تأثّرت بتجربة التهجير والهولوكوست في فترة الحرب العالمية الثانية، حيث هاجرت إلى الولايات المتحدة بعد صعود النازية في ألمانيا.

حنّة آرنت والتنبّؤ بانتحار

شهدت آرنت تطوّر الحركة الصهيونية في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، ومع تأييدها لها فقد كان لديها موقف نقدي تجاه بعض جوانبها، إذ كانت ترى في الصهيونية حلًّا غير مناسب لمشاكل اليهود في أوروبا، خصوصًا فيما يتعلق باستخدام القومية اليهودية مبرّرًا لتأسيس دولة يهودية في فلسطين. ووجّهت انتقادات لاذعة لها، وقد كانت أول بوادر ذلك سلسلة مقالات كتبتها في 1942 حول ما أسمته "أزمة الصهيونية".

كانت تقارن السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين بسياسات التمييز العرقي في النازية

كانت آرنت تدعو إلى البحث عن حلول أكثر إنسانية ومتعدّدة الثقافات لقضية اليهود، ورأت أنّ الصهيونية قد تكون خطيرة، لأنها قد تُفضي إلى تأسيس دولة تعتمد على الهوية العرقية؛ بحيث انتقدت آرنت الصهيونية السياسية التي كانت تستند إلى التفكير القومي الضيّق، فرأت أنّ الصهيونية - بصفتها حركة قوميّة - قد تتسبّب في خلق نوع من العزْل بين اليهود وبقية المجتمعات، وانتقدت الطريقة التي كانت تسعى بها الصهيونية إلى تشكيل دولة يهودية في فلسطين على أساس الهوية العرقية أو الدّينية، ورأت أن فكرة تأسيس دولة قومية لليهود يتمّ على حساب الشعوب الأخرى، خصوصًا الفلسطينيون، وكانت ترى أن هذا قد يخلق صراعًا مستمرًّا ولن يؤدّي إلى حلّ حقيقي أو دائم.

وأعربت عن قلقها من أنّ الصهيونية قد تُفضي إلى دولة تتعامل مع الأقلّيات بأساليب مشابهة لأنظمة سلطوية أو فاشية. وكانت تقارِن بعض السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين بسياسات الأنظمة المستبدّة التي عاصرتها في أوروبا، مثل سياسات التمييز العرقي في النازية.

اليهودية "الكارهة لنفسها"

واحدة من محطّات آرنت المهمّة في هذا السياق كانت خلال كتابها "جذور الشموليّة (The Origins of Totalitarianism)" و"أيخمان في القدس (Eichmann in Jerusalem)" ففي هذا الكتاب (1963)، الذي تناول محاكمة الضابط الألماني النازي أدولف أيخمان، كشفت عن "التعاون غير الأخلاقي" لبعض مجالس اليهود مع النازي، ومع تأييدها لإدانته وإعدامه، فإنّها لم تعتبره أكثر من مُوظفٍ نفَّذ الأوامر الصادرة إليه. وانتقدت آرنت التوظيف السياسي للمحاكمة من طرف ديفيد بن غوريون الذي استغلّ تلك المحاكمة لدعوة جميع اليهود في العالم للهجرة إلى فلسطين واستيطانها لحمايتهم من هولوكوست جديد؛ ممَّا عرَّضها لانتقاداتٍ حادَّة في "إسرائيل"، واتهموها بالتعاطف مع النازيين، وبأنّها اليهودية "الكارهة لنفسِها".

لفتت إلى أنّ إسرائيل تحمل في باطنها بذور فنائها

وكانت آرنت تنتقد الأسلوب الذي اعتمدته الحركة الصهيونية وبعض سياسات الدولة الإسرائيلية بعد قيامها، فشددت على أنّ تأسيس دولة إسرائيل أتى على حساب حقوق الفلسطينيين، وتطرّقت إلى بعض ممارسات السلطات الإسرائيلية بعد قيام الدولة، لا سيما في تعاطيها مع العرب الفلسطينيين، سواء كانوا في إسرائيل نفسِها أو في الأراضي المحتلة. ولفتت إلى أنّ هذا الوضع يعكس نوعًا من التمييز العِرقي، وأشارت إلى القضايا التي نتجت عن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، بما في ذلك الهجرة والتهجير القسري. وهاجمت آرنت المستوطنات اليهودية في فلسطين، باعتبارها تقوم على العنف والتسلط العنصري، وهذا من شأنه أن يساعد على تفاقم الأزمة ويضع الدولة في إشكالية لن تستطيع حلّها يومًا ما. وكان لها رأيٌ حادٌّ في بعض السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، حيث أكدت أنّ بعض هذه السياسات تمثّل قمعًا واستبدادًا.

انتحار إسرائيل البطيء

رأت آرنت أنّه إذا استمرّت الحركة الصهيونية على المسار الذي تتبعه في سياق التصعيد العسكري والسياسي في فلسطين، فإنّ ذلك قد يؤدّي إلى "مستقبل قاتم"، وتنبأت بنهاية إسرائيل تحت عنوان الانتحار البطيء، وتفسّر ذلك بأنّ إسرائيل القائمة على الفكر الصهيوني المتطرّف والمتبنّي لعقيدة الإبادة سوف يؤدّي على المدى الطويل إلى هدم الصورة الأخلاقية والإنسانية للشخصية اليهودية عبر إغلاق الهوية اليهودية في سياج الدولة القومية المحتلة التي هي في نهاية المطاف حالة انتحارية بطيئة.

ولفتت آرنت إلى أنّ إسرائيل - بصفتها دولة - بعيدة عن الديموقراطية، وفي ظل عجزها عن استيعاب القضية الفلسطينية وحلّها، فإنها تحمل في باطنها بذور فنائها نتيجة انغلاقها في الغيتو الواسع الذي هو على شكل دولة محاربة معتدية ومستبدّة.

نتيجة تلك الآراء تعرّضت آرنت إلى تهمة "معاداة السامية"، وعوقبت بعدم ترجمة كُتُبها إلى اللغة العبرية إلّا بعد سنوات طويلة من صدور أعمالها.

"تفاهة الشر"

كذلك أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط الصهيونية عند طرحها لنظرية "تفاهة الشر" (Banality of evil)، وتعني بها كيف يمكن أن يتحوّل الشرّ في أسوأ أنواعه إلى حالة اعتيادية مثل أي وظيفة إدارية أو تقنية في دولة مستبدّة، كما هي حال الدولة الألمانية النازية. وفُهم منها أنّها إسقاط أيضًا على دولة إسرائيل بخاصة أنّها قلّلت في كتابها من مسألة المحرقة النازية لليهود، واعتبرتها مسارًا تاريخيًّا طبيعيًّا نتيجة الوضع الذي سار عليه اليهود وانعزالهم في أوروبا بجانب العداء العنيف لليهود تجاه المسيحيين والأمم (من غير اليهود)، وقيامهم بأفعال أجبرت النازي على القيام بالمحرقة، وانتقدت فكرة الهولوكوست وكيفيّة تعامُل إسرائيل معها، وزاد الطين بلة تجاهها من قبل الصهاينة أنّها كانت على علاقة طيبة وربّما عاطفية بأستاذها الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (تـ1976) الموالي قلبًا وقالبًا للنازية.

شكّلت مفاهيم آرنت حول الطغيان والشمولية و"تفاهة الشرّ" والعنف وغيرها، إطارًا فكريًّا مُهمًا لتحليل النظم الاستبدادية التسلطية التي تحوّل البشر إلى أدوات للقمع والقتل من دون وعي أو ضمير.

حل القضية الفلسطينية

ورأت آرنت أنّ حل القضية الفلسطينية يقوم على قيمة العدالة، بدلًا من القمع والاستبداد الذي تمارسه إسرائيل بحقّ الفلسطينيين، واعتبرت أنّ الحقوق الوطنية للفلسطينيين يجب أن تكون جزءًا من أي تسوية سياسية شاملة.

نادت بالتعايش السلمي بين العرب واليهود الذي يتطلّب الاعتراف بحقوق سكان الأرض

كما شددت على أنّ العنصرية هي أساس المأساة اليهودية. ولا حلول من دون تفهّم حقوق الشعب الفلسطيني وحقوق العرب، ونادت بما يُعرف بالتعايش السلمي بين العرب واليهود الذي يتطلّب الخروج من منطق الاستعمار والاحتلال والتهجير القسري، والاعتراف بحقوق سكان الأرض.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن