إذا كانت قمة «بريكس» بحاجة لأن تبرهن أن العالم الذي تمثله هو نواة نظام عالمي جديد في طور التشكل، فإنَّ 3 تطورات تتعلّق بالقمة توفّر أفضل برهان على أنّ عالمنا الذي تم بناؤه بعد الحرب العالمية الثانية يتغيّر لأن ركائزه تتغير. التطور الأول هو اتفاق المجموعة على توسعتها وضم 6 أعضاء جدد يضخّون مزيداً من القوة البشرية والاقتصادية في المجموعة التي كانت قبل انضمامهم تمثل ربع الاقتصاد العالمي و42 في المائة من سكان العالم.
أما التطور الثاني فهو نجاح الهند، أحد أعضاء المجموعة، في هبوط سفينتها الفضائية على القطب الجنوبي للقمر، الدولة الوحيدة التي نجحت في ذلك، مؤشرة إلى دخول عضو جديد نادي دول الفضاء، لكن هذه المرة من الدول النامية.
التطور الثالث هو حضور الأمين العام للأمم المتحدة، المنظمة التي تمثل النظام العالمي الحالي، الذي يتهم كثيرون مجموعة «بريكس» بمحاولة تغييره، وقوله إن هيكلية نظام الحوكمة العالمي «تعكس عالم الأمس»، ودعا إلى إصلاحه «لكي يعكس قوة الواقع الاقتصادي» الحالي، لأنه في غياب إصلاح كهذا سيكون «التشظي حتمياً».
إن الرسالة السياسية التي أرسلها مؤتمر «بريكس» إلى واشنطن كانت واضحة. رئيس جنوب أفريقيا رامافوزا تحدث عن صفحة جديدة، واعتبر أن توسيع عضوية «بريكس» يلبي رغبة في نظام دولي أكثر توازناً.
وكانت أصوات كثيرة من أفريقيا والدول النامية تكرر دائماً انتقاداتها للنظام الحالي، معتبرة أنه لا يساعدها على التقدم أو الخروج من واقعها الاقتصادي الصعب. كما انقدت المؤسسات المالية العالمية، خصوصا البنك الدولي وصندوق النقد، معتبرة أنهما لا يمثلان مصالحها، وأن صوتها غير مسموع فيهما. كما رأت مقاييس مختلفة في التعامل معها. ومؤخراً، انتقد مسؤولون أفارقة سيطرة الدولار على النظام المالي العالمي، ملقين عليه مسؤولية عرقلة نموهم الاقتصادي.
ومع أن الخبراء الماليين يشيرون إلى أنه من المبكر الخوف من منافس للدولار، وأن محاولة استبداله طموحة جداً، لأنه ما زال يمثل 59 في المائة من احتياطي العملات عالمياً، و90 في المائة من التجارة العالمية تجري بالدولار، إلا أن القمة دفعت مستقبل الدولار إلى الواجهة.
الرئيس البرازيلي لويس لولا دا سيلفا قال إن وعد العولمة فشل، ودعا خلال القمة إلى خلق عملة مشتركة للتجارة والاستثمار بين أعضاء المجموعة. وكان قد دعا في تصريحات قبل القمة إلى استخدام العملة المحلية في التجارة مع دول أخرى، وليس الدولار. وانتقد صندوق النقد الدولي متهماً إياه أكثر من مرة بإغراق دول، بدل إنقاذها.
إن العالم تغيّر فعلاً، وإذا كنا لا نرى نظاماً عالمياً جديداً بعد، فإنه بالتأكيد في طور التشكل. لكن واشنطن، التي شكلت هي أيضاً تحالفاً ثلاثياً جديداً مع اليابان وكوريا الجنوبية، اعتبر تحدياً للصين، لم تبدُ قلقة نتيجة هذه التطورات. فالبيت الأبيض لم يرَ تهديداً جيوسياسياً في ما يحدث.
مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي جاك سوليفان قال للصحافيين: «نحن لا ننظر إلى (بريكس) من منظار جيوسياسي، أو أنها ستصبح منافساً جيواستراتيجياً للولايات المتحدة أو أي أحد آخر».
وهو يرى في الاختلافات في نظمهم السياسية إشارة إلى أن واشنطن يجب ألا تخشى مجموعة متنوعة، تختلف في أنظمتها، مصنفاً إياها دولاً ديمقراطية وأخرى استبدادية، كما تختلف حول مسائل عدة.
كان واضحاً من كلام سوليفان أن رسالة «بريكس» والعالم النامي قد وصلت، وأعطى كلامه لمحة عن كيفية مواجهة واشنطن لهذا التحدي... وخلال مؤتمره الصحافي، كان لافتاً إعلانه أن الرئيس بايدن سيزور الهند في 7 سبتمبر (أيلول) لحضور قمة دول العشرين وأنه أعطى الأولوية لقضايا الطاقة النظيفة والتغير المناخي، في ما سيركز الرئيس في محادثاته على التبعات الاقتصادية والسياسية «لحرب روسيا في أوكرانيا».
وقال؛ لقد سمعنا بالصوت العالي والواضح أن الدول تريدنا أن نزيد من دعمنا في مواجهة التحديات المتداخلة التي تواجهها. لذلك بينما نستمر في دعم أوكرانيا، سوف نقدم تقديمات لباقي العالم. وكشف عما سيحمله الرئيس بايدن معه إلى قمة العشرين لتلبية حاجات ومطالب دول الجنوب. وقال أيضاً إنه بسبب حجم الحاجة وحجم الإدانة غير المستدامة الصينية من خلال مبادرة الطريق والحزام يجب أن نضمن حلولاً عالية المستوى ورافعة مالية لهذه الدول، مؤكداً أن البنك الدولي وصندوق النقد هما المؤسستان الفاعلتان ولا زالتا تمثلان القيادة الأميركية. وأكد أن الرئيس ملتزم تحديثَ هاتين المؤسستين وأنه سيركز نشاطه خلال قمة العشرين على ذلك، مضيفاً أن الرئيس ملتزم «بإعادة تشكيل البنك الدولي وزيادة قدرته ليصبح أكثر فاعلية في التقديمات لخفض الفقر وتحقيق النمو الشمولي، ومواجهة التحديات العالمية مثل التغير المناخي والهجرة والتعافي من جائحة (كوفيد)».
وفنّد المقترح الأميركي الذي سيحمله الرئيس بايدن قائلاً إنه تقدم بطلب إضافي في الموازنة من الكونغرس لزيادة قدرة البنك الدولي وصندوق النقد على التمويل الميّسر. فتوفر الولايات المتحدة 50 مليار دولار للبنك والصندوق للإدانة للدول الفقيرة والدول ذات الدخل المتوسط. وتوقع سوليفان أن يساهم الحلفاء وشركاء الولايات المتحدة أيضاً، ما يرفع هذا المبلغ إلى 200 مليار دولار. ومن المتوقع أن يكون هذا العرض في صميم محادثات الرئيس بايدن مع حلفائه خلال اجتماعاته بهم، خصوصاً الثنائية منها، ليضمن التوصل إلى المبلغ المطلوب. لكن من غير الواضح ما إذا كان سينجح في إقناع الكونغرس على الموافقة على هذا المبلغ. سوليفان قال إن هذا الطلب هو ضرورة استراتيجية.
قيادة صندوق النقد الدولي نقلت رسالة مشابهة لرسالة واشنطن حول المطلوب من الصندوق ليصبح أكثر فاعلية وتمثيلاً. في مقال نشرته مجلة «فورين أفيرز» هذا الشهر، قالت المديرة التنفيذية للصندوق كريستالينا جورجيفا إنه على الصندوق أن «يستمر في العمل لدعم التمثيل داخل المؤسسة. وإنه من المهم أن يعكس الصندوق واقع العالم اليوم، وليس القرن الماضي. إن عملية اتخاذ القرار في الصندوق تتطلب نهجاً تعاونياً وحوكمة شاملة». يبدو حقا أن الرسالة قد وصلت، وأننا على عتبة عالم، إن لم يكن جديداً فعلى الأقل محدث. والعبرة بالنتائج.
(الشرق الأوسط)